المجتمعات
العربية بين الحكامة والتحكم
بقلم عمر الايبروكي*
الحكامة من
المفاهيم التي دخلت مجالي السياسة والمجتمع، وهي آلية لممارسة السلطة السياسية، وتدبير شؤون المجتمع وموارده البشرية والمادية، لتحسين نمط عيش المواطنين، وتحقيق التنمية والرفاهية للجميع، وبمشاركة الجميع. وينتمي مفهوم الحكامة، إلى مجال العلوم الإنسانية المختلفة، وبالضبط لعلمي الاقتصاد والسياسة، ففي بعده السياسي يتجلى في طريقة ممارسة السلطة
الحكومية، وفي بعده الاقتصادي يرتبط بتسيير المؤسسات الإنتاجية والمقاولات.
إنها من المفاهيم
التي انطلقت من العالم الغربي المتقدم، لتنتشر في العالم الثالث، ضمن مجموعة من المفاهيم المواكبة لظاهرة
العولمة.مفاهيم تنتمي إلى مرحلة ما بعد الحداثة، و التي برزت في خضم تحولات
المجتمعات التي تسعى إلى البحث عن تحسين التدبير، وترشيد الموارد، وتسطير البرامج، مع السهر على تطبيقها وبلوغ أهدافها
بتسخير كل الإمكانيات الطبيعية والبشرية المتوفرة.
انطلاقا من دلالات
هذا المفهوم ، كيف نشأ وترعرع في تربة العالم العربي ؟
تأتي ظروف نشأة مفهوم الحكامة في عالمنا العربي، ضمن التحولات العالمية، وسيطرة المؤسسات المالية، والمنظمات الدولية غير الحكومية، التي حاولت تسويق هذه المفاهيم، كآلية جديدة لتوجيه الاقتصاد العالمي، والتدخل المباشر في رسم خطط التنمية، وتولي مهمة محاربة الفقر، وتحسين وضعية السكان بعد أن عجزت الحكومات
المحلية عن تحقيق تنمية مستدامة رغم مرور عقود من الزمن على استقلالها السياسي.
وهكذا عملت بعض المنظمات المالية كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي على نشر، أو فرض مفهوم الحكامة على دول العالم الثالث
ومنها العالم العربي. وبتنسيق مع لجنة التنمية وضعت إستراتيجية لتشجيعه، ومحاربة
الرشوة بإشراك المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني لمحاربة الفقر.
تبنت المجتمعات الغربية آلية الحكامة لتنظيم
مؤسساتها، وتحقيق مجموعة من الأهداف الاقتصادية والسياسية خدمة للمواطنين.وتم
تأطيرها بمجموعة من القوانين والقواعد التي توجه السلطة السياسية والاقتصادية.
وهكذا صدر الكتاب الأبيض للحكامة الأوربية، وتبناه البرلمان الأوربي ليحدد
إستراتيجية العمل السياسي والاقتصادي على ضوء خمسة مبادئ أساسية للحكامة الجيدة، وهي: الانفتاح، المشاركة، المسؤولية، الفعالية، والانسجام.
وتشكل هذه المبادئ
الخمسة الحجر الاساس للحكومات في ممارسة السلطة السياسية، و للمؤسسات الانتاجية في
كل نشاط اقتصادي لتحقيق غايات وأهداف محددة من شأنها أن ترفع من مستوى عيش
المواطنين. وقد اجتهدت المنظمات الحكومية، و غير الحكومية في العالم الغربي، وساهمت
الأبحاث الجامعية في وضع القواعد الإستراتيجية، وضبط الآليات، لتحقق الحكامة أهدافها، وتبلغ غايتها.
و قبل الحديث عن تحقيق معايير الحكامة بالعالم
العربي، و مدى نجاح تبنيها، لابد من تحديد شروط الحكامة كما تبنتها الدول
المتقدمة، و كما حددتها المنظمات
الدوليةوفرضتها على دول العالم الثالث، وهذه الشروط هي:
·
الديمقراطية، وهي المناخ
السليم الذي يضمن التسيير الرشيد.
الكفأة.
·
النخبة السياسية المنتخبة، والأطر الإدارية
- المشاركة الجماعية للمؤسسات الحكومية ومنظمات
المجتمع المدني.
·
القدرة على المحاسبة، والمساءلة لحماية الشأن العام من استغلال
السياسيين.
فكل تقييم للحكامة لا بد من توفير هذه الشروط، وخلق المناخ السليم لممارستها، وتأهيل الموارد البشرية ذات الكفاءة العالية، وكل غياب لهذه المؤهلات يعني عدم القدرة على
تحقيق الحكامة الجيدة.
بالفعل فتجليات الحكامة في المجالات الاقتصادية والسياسية، تكون مصحوبة بالقوانين الدقيقة، والمساطر الإدارية البسيطة، والقضاء المستقل الذي يلعب دوره في الحفاظ على
الحقوق. وهذا ما يخلق المجتمع المنفتح إيجابيا على كل الفاعلين، من أفراد ومؤسسات اقتصادية من مختلف الجنسيات
للاستثمار، وجلب رؤوس الأموال.
فأين العالم العربي من كل هذه المبادئ والشروط و
الآليات الضرورية للحكامة؟
في اعتقادي ما زال العالم العربي غريبا عن
الحكامة السياسية والاقتصادية، بل هو اقرب للتحكم منه إلى الحكامة. فالقبيلة و
الأسرة تلعبان الدور الأساسي في تملك السلطة والمال، والاقتصاد تتحكم فيه آليات عتيقة، وقواعد مبهمة لا تمت للعصر بصلة. ومن شأن ذلك أن
يعطل التنمية الاقتصادية والبشرية، ويباعد
بيننا وبين الحكامة. والدولة في العالم العربي لم ترق بعد إلى مؤسسة ديموقراطىة
تسيرها نخبة سياسية منتخبة لفترة محددة، وتعتمد الكفاءة لإسناد المهام، وتكون
خاضعة للمحاسبة والقانون.
لعل الشرط الأساسي
للحكامة، هي الديمقراطية المبنية على
الاختيار الحر والسليم للمواطن، وتربيته
على المسؤولية والأمانة ليساهم في تنمية مستدامة تتجلى في حسن تدبير الموارد
الطبيعية، واستفادة الجميع من الخيرات، والعمل على المحافظة على البيئة للأجيال
القادمة. فالديمقراطية أساس الحكامة الجيدة، وتأهيل المواطن أمر ضروري ليساهم بدوره كاملا
كمواطن صالح يفكر في المصلحة الجماعية، ويتجرد من أنانياته الضيقة، ويتحمل المسؤولية كغاية، وليس كوسيلة للانتفاع الشخصي.
وفي قراءة سريعة للنخب المسيرة في العالم العربي
تجعلنا نستنتج انها تتشكل من عشائر و أسر وجماعات سياسية تشكل احزابا تسود وتتحكم
في دواليب السياسة والاقتصاد، وتجعل
السلطة طريقا للإثراء واقتصاد الريع مقابل فئات عريضة من المجتمع تصارع من اجل
البقاء.
وهذا معناه غياب
الديمقراطية كشرط ضروري للحكامة لوجود عوائق ثقافية وسياسية أمام تحقيق الحكامة في
العالم العربي، منها ما هو سياسي يرتبط
بعدم النضج الديمقراطي عند المواطن، و ما يترتب عن ذلك من مؤسسات عاجزة وبعيدة عن
الحكامة الجيدة. ومنها ما هو ثقافي يتجلى في كون المجتمع العربي تخترقه بعض
العلاقات العتيقة التي تتحكم في التدبير، فهناك مؤسسات اقتصادية وسياسية تتحكم فيها
العلاقات العائلية على مستوى التسيير. وما تزال المسؤوليات تسند بناء على القرابة
والزبونية بدل الكفاءة، يضاف إلى ذلك أن مساهمة المرأة ضعيفة في اتخاذ القرارات في
المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، و في تسيير مؤسسات المجتمع.لأن غياب
المرأة أو تغييبها عن المجالات الحيوية للمجتمع خلل في العلاقات الإنسانية الطبيعية،
ولا يمكن الحديث عن الحكامة في وقتنا الراهن، دون علاقات المساواة بين الجنسين.
وفي الوقت الذي
اعتقدنا أننا تجاوزنا هذا التمييز، أو أنه تقلص أو اختفى، لاحظنا أنه يطفو على السطح بمثابة لاشعور جمعي
يخترق كل المجالات الاقتصادية والسياسية. وهنا تكمن الهوة السحيقة بين خطاب
الحداثة والديمقراطية، وبين الممارسات
العملية التي تنتمي الى زمن الأمر والطاعة.
وقد عاشت المجتمعات
العربية فترة الاستعمار، وقدمت التضحيات
بدافع الحماس الوطني، وهاجس الأمل في تحقيق الاستقلال السياسي و الاقتصادي، وضمان
مستوى من العيش الكريم .وما وقع ان الآمال تبخرت ولم تستفد الا فئات اجتماعية
محدودة، ومنها من كانت تتعامل مع قوى الاستعمار الذي حرص على استمراريتها و
تزكيتها حفاظا على مصالحه الحيوية.وتميز العالم العربي باحتكار الثروات وتركيز
السلطة داخل فئة ضيقة من التابعين وتابعي
التابعين من المنتفعين، أمام سيطرة الحزب الواحد،
او العائلة الواحدة، ان لم نقل الفرد الواحد، وفي احسن الأحوال سمح بتاسيس احزاب وجمعيات
المجتمع المدني لتاثيث المشهد السياسي.
ان هذه التحولات
التي يعيشها العالم العربي اليوم نتجت عن غياب المناخ السليم سياسيا واقتصاديا
يسمح للمواطن بالمشاركة السياسية، والمساهمة الارادية الحرة، وإبراز القدرات
الابداعية، واثبات الذات في كل
المجالات.وبعد تضحيات الاجيال السابقة ، وعدم قدرتها عل التغيير بسبب تعدد الرؤى و
صراع الايديولجيات ما بين يسارية/اشتراكية ويمينية/راسمالية، وبعد التحولات التي
عرفها العالم، توحدت التصورات، وتركزت
الافكار حول تحقيق المجتمع الديموقراطي الذي ينعم الجميع بالمساواة في كنفه.
و في انتظار ان
يحقق الشباب العربي بعض آماله، فان المجتمعات العربية ما تزال الى اليوم بعيدة عن
شروط الحكامة، وان كانت من اكثر الشعوب
استيرادا واستهلاكا لمثل هذه المفاهيم التي تحولت الى شعارات نظرية يتسابق الجميع
على ترديدها حتى دون فهم جوهرها ومدلولاتها أحيانا.
*دكتور وأستاذ التعليم العالي تخصص علم
الاجتماع
ملحوظة نشرت هذه المقالة بجريدة أخبار اليوم، بتاريخ
26 ماي 2011،عدد 454.وأيضا نشر في حساب الأستاذ عمر الايبروكي على الفايسبوك.