24‏/12‏/2015

قصة قصيرة القيام من جديد

القيام من جديد
بقلم أمينة زوجي*

سار حسان في ذلك الليل الممطوط الذي لا يريد أن ينجلي بكوابيسه المفزعة، بلا هدف أو غاية مطأطئ الهامة، شارد الذهن والدياجي تكتنف جسده الهزيل وتخفي ملامحه المتجهمة، لقد انتهى كل شئ بالنسبة له في هذه الدنيا وضاع وسط الزحام.
لم يعد ذلك الأمل الوردي الساطع، يحلق في سماء روحه البريئة أو يغمرها بالسعادة والنشوة كما السابق، لقد كان ينسج بخياله الخصب السرمدي، عالما عذبا من المشاعر والأحاسيس الفياضة، منصبا حبيبته سلمى التي اعتبرها منذ عهد ليس بالقصير شطر روحه الأخر، ورفيقة دربه امبراطوة على عرشه، قبل أن تتكسر أحلامه وأمانيه، فوق صخرة الواقع المرير، ويصدم بمنظر فتاته التي كانت تعاهده وتقسم له بكل ما هو مقدس على أنه لا توجد قوة في هذا الكون تقوى على إبعادها عنه أو صرفها عن حبه غير الموت، في ديباجة العرس تزف إلى غيره، وعلامات البهجة والفرح واضحة على محياها.
فوقف العاشق المخدوع مشدوها حيال هذا المنظر الرهيب، الذي قوض أحلامه وأماله، وجعله يحقد على كل من في الأرض، أهذا هو جزاء الحب و الوفاء؟ لقد تحول إلى إنسان نكرة، حبيس داره وكتبه وخواطره الرومانسية، يرثي أيامه وأحلامه، أي ذنب إرتكب حتى يكون مصيره على هذا الحال، لماذا يصر الناس على تعذيبه وعدم رحمتهم له، ولو لمرة واحد على الإطلاق، كلهم يحقرونه، يصفونه بأرذل النعوت، وينظرون إليه نظرة ازدراء واستهزاء. 
كان يظن بأنه وجد الحب والحياة، كانت أمله ومنبره، كان يظن أنه بعد طول عناء، وجد من تقدره وتنسى أصله وفصله، وماضيه الذي لا يد له فيه، بيد أنه أكتشف الحقيقة المرة، أكتشف خداع محبوبته وسذاجته الحمقاء، عرف بأن لا مكان له بين هؤلاء الناس الذين تسري في عروقه دماؤهم، نمى وترعرع بينهم، أكل من خبزهم وشرب ماءهم، كان على إستعداد لأن يموت فداءا لأرواحهم، وصونا لكرامتهم، في الوقت الذي كانوا يعتبرونه وصمة العار التي تسمهم، إحتضنوه على مضض، فجعلوه لعبتهم، يتسلون بها أثناء فراغهم، يسلطون سخطهم عليه لحظة غيظهم.
عاد إلى غرفته المنبوذة فوق السطح، يتجرر أذيال الهوان، ليودع جدرانها المتصدعة، فلطالما شهدت على خيبة طموحاته وأماله.
لم تكن له وجهة معلومة بعد، لكنه حسم أمره على الرحيل بحث عن هوية وعن قدر جديدين.
كان يجمع أغراضه البسيطة المتناثرة في جميع أرجاء الغرفة، فوجد رسائل الحب والوله، تلك التي كان قد تسلمها كحجج دامغة على الوفاء، وكان يقرأها بقلبه الولهان لا بعقله الصاحي، يحفظ الكلمات ويرددها بكل خشوع واحترام، كما تردد الآيات والترانيم، فما كان يميز بين الكلمات النابعة من الفؤاد، وتلك المصطنعة، المنقولة حرفا من كتب الرسائل الجاهزة، التي تباع في المكتبات، في الاكشاك، وعلى الارصفة بأثمنة بخسة، الآن فقط أدرك بأن كل ما كانت تمنحه إياه من العطف والحنان، لم يكن سوى دغدغة مشاعر زائفة، ولحظات عشق من مسرحية مبتذلة إستمتعت بها ظرفا من الزمان.
أحرق الاوراق، وتلألأت عينيه العسليتين عندما إنعكست عليهما إضاءة ألسنة اللهب، أصر أن لا يغادر إلا بعد أن يرى الرماد يتناثر في الهواء لا حول له ولا قوة، وكان غرضه التخلص من معالم الخيبة وأثار جرائم نسبت له في غفلة من أمره، فيكون لرحلته في سبيل البحث عن قدر جديد معنى. 
حمل حقيبته، وغادر دنيا الأوهام، باحثا عن بداية جديدة في مكان ما، عازما على طي صفحة الماضي، ليواصل سيره إلى الأمام، أما الجراح والآلام فالزمن كفيل بأن يعالجها ويشفيها، ويجعلها جزءا من الذكريات والتجارب، فتكون له عون على سبر أغوار الحياة، فإذا تعثر سهل عليه القيام من جديد.


كتبت القصة القيام من جديد سنة 2004 بجماعة المعازيز، ونشرت في مجلة ديوان العرب في 25 يناير 2014



*طالبة بماستر تربية وإدماج الشباب والاطفال في وضعية صعبة بكلية علوم التربية



06‏/12‏/2015

قصة قصيرة النار تأكلني

النار تأكلني
 بقلم أمينة زوجي *


النار تأكلني كل يوم،

وبين دهاليز البلدية أقضي أيامي ذهابا وإيابا، أتأبط أوراقي وأتردد بين المكاتب أحمل آمال عمري الفان، تبتلعني متاهات تخصصات مبهمة، تتقادفني الابواب ككرة لهب، وينتهي بي المطاف بين يدي موظف متأنق لا يعي معاناتي، يجلس على كرسيه المريح كأسد متغطرس، ينهرني قبل أن تنبس شفتاي بكلمة، يتفحصني باحتقار، يحاصرني بعينيه المغرورتين بإشمئزاز، تخترقان ثوبي الرث فلا تجدان سوى بقايا جسد هزيل أنهكته نوائب الدهر رغم صباه، وحين ينتبه إلى حذائي الرقيع، وحقيبة يدي البالية تعتلي وجهه الممتلئ أعراض الغثيان.
أنكمش أمام هجمات عينية، أتضاءل أمامه كأنه الاله، فتهون أيامي رخيصة، لكن شيء ما بداخلي ينتفض، عرق حار يتصبب من جبيني، وحمرة كالدماء تجتاحني من عمق قهري، فلا أجد لي من ملاذ غير إستحضار عيون أطفالي البريئة مستغيثة... أحاول تجاهل الامر والتركيز على هدفي، أستجمع كلماتي المبعثرة فأنا صاحبة حق لا متطفلة، فأنا مواطنة ولي حقوق، أستفسر عن مطلبي بجرأة ، فيحاصرني صوت موظف آخر بنبرته الحادة يأتيني من عمق سحيق كرصاصة، يأمرني بالعودة في وقت لاحق.
"لم تتم دراسة ملفك بعد"
أعود غدا، أحمل أمالي وأحلام أطفالي بجدران أربع، وباب من حديد يحمينا من تقلب الفصول و تجهم أقرباء صارت أجسادنا المكدسة حملا ثقيلا عليهم .
أعود بعد أسبوع،
بعد أشهر،
ويبدو أن الايام صارت سنوات تجري، تعدوا بدون أي تغيير، فالموظف المتأنق مازال يجلس على كرسيه المريح بوجهه المتورد الممتلئ، والأخر مازال يأمرني بالعودة في وقت لاحق بلهجته الجافة، وأنا مازلت بجسدي الهزيل أتردد بين المكاتب أتأبط أوراقي، أنتعل حذائي الرقيع، ولا أهتم بمنظر حقيبة يدي البالية، لا يهمني إن صارت ألوان ثوبي مجهولة.
هذه المرة أعود وقد استنفدت رصيد صبري، سئمت نظرات الاحتقار والازدراء، وماعدت أطيق عبارات التأجيل، أعود وأحلامي تلاحقني، فأجدها قد تبخرت من دون علمي، يخاطبني المتأنق محاولا إخفاء إبتسامته الساخرة "آسف لقد تم استبعاد ملفك لأنه لا يستوفي جميع الشروط"
"مستحيل، أية شروط يمكن أن لا يستوفيها الملف وقد حرصت على إعداده بعناية".
"ينقصك زوج، المستفيدين بالنسبة لنا هم عبارة عن أسر مكتملة، وأنت مجرد أم عزباء".
الدنيا تدور من حولي بدون هدى، أشعر بتعرق شديد، وبرودة في ساقاي، يتوقف ذهني عن التفكير للحظات من هول الخبر، تكاد أنفاسي تختنق داخل صدري، أحاول أن أعترض، أن أصرخ بكل ما في من غضب فتخرج كلماتي مرتجفة، تتجمع دموعي في محاجرها، تنهمر مدرارا على جفوني فتحرق من فرط أجاجها مقلتي، وبين ضلوعي تستعر نار تتلضى، يتوهج قلبي كشمس تنتحر، فأجدني أشتعل كجمر محموم، النار تحاصرني كنظرات المتأنق، تخترق ثوبي الرث لتنفذ إلى بقايا جسدي الهزيل، تلتهم أحشائي بنهم شديد، أستنجد بحقوقي التي خلتها ستنصفني فلا تجيب، أستنجد بقطرة غيث من السماء فلا تستجيب، أحتضر وعيون أطفالي ترقبني، سأموت وغدا أصير رماد تشيعه أنباء في الجرائد والصحف.

إلى روح فدوى العروي و كل من احترق بنار الظلم


*طالبة باحثة بسلك الماستر تخصص تربية وإدماج الشباب والاطفال في وضعية صعبة بكلية علوم التربية


ملحوظة: تم نشر هذه القصة القصيرة بمجلة ديوان العرب بتاريخ الأحد 3 نيسان (أبريل) 2011.  

30‏/11‏/2015

شهرزاد المغربية ترحل نحو العالم الاخر

شهرزاد المغربية ترحل نحو العالم الاخر


أمينة زوجي
بعض الاشخاص لا نتخيل رحيلهم عنا لأنهم صاروا جزء من التاريخ الابدي لوجودنا وهويتنا، لكن هيهات هيات لشبح الموت أن ينسى لعبة الفجع والخطف، بل قدر لنا في هذا اليوم الاخير من نونبر من عام 2015، أن نفجع بفقدان  امرأة طبعت التاريخ النسائي وأضافت للعلم الشيء الكثير، وساهمت في التعريف ببلدها في الساحة العلمية والعالمية.
لم يتوقع أحد مغادرتها بهذه السرعة، لأنها لم تظهر يوما إلا في أبهى صورة، كانت دائما شامخة وقوية، نشيطة ومتعبة، لا يستطيع مسايرتها في العمل  إلا  القلة القليلة، لم تشتك يوما من أي مرض أو علة، لهذا كان اليوم الكثيرون في الجنازة يستغربون وفاتها الفجائية، غير أن واقع الحال لا يتعلق بوفاة فجائية بل بامرأة ترفض الانصياع للمرض وشغل الاخرين بتفاصيله المملة، كانت تعاني في صمت ولكنها لم تتنازل عن الكتابة والعمل لأخر لحظة.
عرفت الاستاذة في البداية من خلال كتبها وخاصة كتاب نساء على أجنحة الحلم، الذي يعتبر بمثابة سيرة ذاتية لمرحلة الطفولة، حيث حملتنا على أجنحة الحلم إلى ردهات عوالم الماضي النسائي، ثم تعرفت عليها شخصيا سنة 2011، ففتحت لي بيتها واحتضنتني عندما لمست ميولي إلى الكتابة،  وشجعتني للمضي قدما نحو هذا العالم المثير، وكان لها الفضل في دعم الكثيرين  ابتداء من الطلبة والباحثين مرورا بالفنانين التشكيلين وصولا إلى الصناع التقليدين.
 رغم رحيلها إلى العالم الآخر، إلا أنها تحولت بفضل انتاجاتها العلمية إلى رمز لن يندثر باندثار جثمانها في مقبرة سيدي مسعود بحي الرياض، حيث مشينا خلفها بخطى بطيئة تتجرر مرارة الفقدان.
فاطمة المرنيسي أعطت الكثير لهذا الوطن، ورفضت الاستقرار في الولايات المتحدة الامريكية، لانها تعشق تراب المغرب وبحره، وتقدس كل من ينحدر من منطقة الاطلس، بيد أن هذا الوطن لم يعطها غير القليل من العرفان، وبعض التعليقات على صفحات الفايسبوك وخبر قصير في نشرة الاخبار.
كنت أعتقد أن جنازة المرنيسي سوف لن تجد لها مثيل، لان علمها غزير وعابر للقارات، ولان كتاباتها ترجمت للكثير من اللغات، ولان الاشخاص الذين ساعدتهم لا يحصون، إلا أنها غادرت في  جنازة متواضعة العدد، عدد قليل من أقطاب السوسيولوجيا، وبعض السياسيين والحقوقيين وبعض الاصدقاء والأقرباء، استغربت لعدم وجود رموز الحكومة الحالية، واستغربت أكثر لعدم وجود طلبة وطالبات علم الاجتماع الذين كانوا يتهافتون عليها خلال الندوات واللقاءات.
لا يسعني أستاذتي في النهاية إلا أن أقول أنك ستظلين شهرزاد المغربية التي لا تموت، والتي تعبر العوالم لتعود وتظل حاضرة في ذاكرتنا الجماعية.


15‏/10‏/2015

أريد حفيدا من ابنتي

أريد حفيدا من ابنتي

(لآباء وأمهات ذوي الإعاقة)
إعداد محمد مكاوي*



بلغ به العمر خمسين سنة ونيف أصابته جميع الأمراض، ضغط الدم ووهن العظام، ومع ذلك مازال يحيط ابنته ذات العشرين سنة بكل الحب والحنان.
من يصدق ما وقع ، لقد كانت إكرام مرتعا للحلم الوالدي إلى أن شاءت الأقدار أن تصاب بهذا المرض الذي أقعدها وحد من حركتها وأخرس لسانها وأجلسها في ركن من الكوخ القصديري الذي طالما حلم الأب باستبداله فما فلح .
حين كانت زوجته على قيد الحياة كانت تعفيه من جميع الخدمات، فهي التي تستبدل ملابس ابنتهما الداخلية، وهي التي تطعمها وهي التي تواسيها في الوحدة. أما اليوم وبعد أن رحلت إلى دار البقاء تعب الشيخ كثيرا في العناية والرعاية ومع ذلك لم يبد أبدا في يوم من الأيام اشمئزازه من ابنته. كما لم يبد أبد تعبه أو كلله.
كان يحرص دائما أن يكرر نفس الطقوس التي اعتادت عليها ابنته عندما كانت أمها حية ترزق.  يعود  كل مساء قبل غروب الشمس ، يعود متعبا من السوق يدخل العربة ذات العجلتين لركن من أركان الكوخ ، ثم يشرع في تقديم جميع الخدمات اللازمة مع ابتسامة لا تفارق محياه؛ وهو يعمل على إعداد الطعام  يحرص على أن يحكي لها عن أحداث اليوم كأنما تسمع ما يقول  وتفهم عما يحكي.
ابنته جسدا ممددا على الفراش ، لا حركة ولا كلام، مجرد نفس خافت  يخرج من فمها بين الحين والحين أو حركة بسيطة لجفون عينيها، ومع ذلك فقد كان يدرك أنها تبادله  الشعور والكلام، فيروي لها عن السوق وعن أثمنة الخضر وعن حرارة الشمس أو سقوط المطر،  يحكي لها  بالتفاصيل عن تعب اليوم، وعن مدخراته لها ، وعندما ينتهي يجلس أمامها فيرفع رأسها قليلا ويسنده إلى الوسادة  فيمسح فمها بمنديل مبلل بالماء ثم يبدأ في إطعامها لقمة لقمة ، يطعمها بأصابعه  وفي كل حين يمسح برفق  شفتيها ويسقيها  قطرات من الماء بالملعقة النحاسية التي اشتراها لها من "الجوطية".
منذ أن مرضت إكرام لا تدري ماذا يحدث في الوجود ولا يعرف هل تعرفه أم لا كما أنها لا تعرف من يقوم بإطعامها.
إكرام قال عنها الأطباء لقد أصيبت بموتة دماغية؛ فكذبهم الشيخ لأنه رآى في منامه أن جده قدم إليه في رداء أخضر واخبره أن ابنته الوحيدة إكرام  ستشفى في القريب العاجل وستكون خيرا وبركة على الأسرة .
عندما انتهى من واجبه اليومي غسل الصحن بماء المدلجة البلاستيكية المملوءة بماء البئر ومسح فم ابنته إكرام ثم  تهاوى على الأرض  في وحدة وسكون.
فجأة تبادرت له فكرة : "لماذا لا أزوج ابنتي ويكون لها ولدا  يحميها بعدي ، ابنتي تبلغ من العمر عشرين  سنة، وأنا لن أبقى دائما في خدمتها.
ثم انتبه فجأة وقال : ومن يا ترى سيقبل بابنتي زوجة وهي لا تستطيع حتى إطعام نفسها ؟
تأمل  ابنته الممدة ووجد جفنوها ترف وشيئا قليلا من النفس ينساب  من فمها فيرتفع صدرها ثم يهبط بانتظام.  ثم قال بكل إصرار وهو يمرر يديه على لحيته  :  أنا من واجبي أن أزوج ابنتي وأن أحميها وأن أسهر على سعادتها بعدي.... ولكن كيف ؟
أطل الصباح واستفاق الشيخ من نومه وهو يفكر في الأمر بجدية ثم اتجه إلى فقيه المسيد ليسأله ويستشيره في الأمر
قال الفقيه :

«اعلم أيها الشيخ الكريم أن ابنتك في حالة لا يرجى منها أن تفي بموجبات عقد النكاح  فهي غير قادرة على حماية نفسها فكيف لها أن تحمي أسرتها، كما أنها حسب علمي فاقدة للإدراك والعقل وبالتالي فليس من حقك أن تفكر في هذا الأمر، وتلك مشيئة الله . »

سمع الشيخ مليا ما روى فقيه المسيد، فالتفت له وقال في عصبية  : سيدي الفقيه إنني أعلم أن ابنتي عاجز عن الوفاء بحق الزوجية ، لكن  كيف يمكنني أن أحصل على حفيد منها ليحميها بعدي. كيف يمكننا نحن الإثنين  أن نحيا دون رعاية .

هل تعلم سيدي الفقيه  أنني أشكو من أمراض عدة ولم أعد  أستطيع الوفاء لها بحقها في الطعام والشراب  وليس لها وليا بعدي ولم يطرق أي من المسؤولين بابي .

سمع الفقيه قول الشيخ فقال :اسمع يا شيخ ، أنا أفتيك بما أمر الله ، واعلم أنه  قد يترتب عن ذلك الزواج أطفالا معاقين. ألا يكفيك ما بالمجتمع من إعاقات لإثارة مشكلات أخرى.

منذ أن علم الشيخ بجواب فقيه المسيد لم يعد يصلي وراءه كما كان في السابق ،بل حين عاد مساء لابنته قرر أن يفاتحها في الموضوع ، وبعد أن أطعمها جلس بجوارها وقال: اسمحي لي يا ابنتي ، لا حياء في الدين ، أريد أن أفاتحك في أمر لم يفاتح به أب ابنته قبلي ... سكت فجأة وقال : فلذة كبدي إكرام الآن أصبحت شابة جميلة تشبهين المرحومة أمي، وأعلم أنك قد تخجلين مما سأقوله لك لكن لا بأس فأنت ابنتي وأنا أبوك ، فكما تعلمين لقد بلغت من العمر أردله ووهن عظمي ولم أعد أستطيع الوفاء لك بحاجياتك في الأكل والشرب لذلك يا ابنتي أردت أن أستشيرك في أمر هو خير لك ولنا جميعا،

لا تستعجلي يا ابنتي فأنا أعلم أنك تسمعينني وتفهمينني. وحتى أكمل دينك سأبحث لك عن عريس شاب جميل ومحترم  سترزقين منه بأطفال يحمونك بعدي .

قال الأب كل ذلك ثم انسحب في خجل

افترش الشيخ الأرض وتحت ضوء الشمعة راح يفكر في مصير ابنته بعده ثم عقد العزم على أن يستشير  شيخ القبيلة  في الأمر.

أشرقت شمس  الصباح الباكر فذهب الشيخ إلى شيخ القبيلة وحكى له عن ابنته وعن حاجته لحفيد يحميها بعده  وطلب منه أن يبحث معه عن حل .

أقول لك بصراحة نحن أبناء قبيلة واحدة ،لا داعي للتفكير في الأمر فقد علمت من القائد أن مدونة الأسرة  أصبحت صعبة ولم يعد الزواج كما كان في السابق أمرا سهلا وابنتك طفلة معاقة لا يجب عليها أن تتزوج فانظر لحال المتزوجات والمتزوجين من الأسوياء فكيف ستكون ابنتك ؟

قاطعه الشيخ وقال : ياسيدي الشيخ أنت تعلم أنني سأصبح ذات يوم عاجزا عن خدمة ابنتي إكرام وهي كما تعلم عاجزة عن القيام بأبسط الأمور لذا فإنني فكرت  في تزوجيها عسى أن ترزق بمن يخدمها بعدي وإذا كان لايقبل بها أحد زوجة فكيف أجعلها تحصل على طفل ؟

التفت الشيخ لأب إكرام وقال : العن الشيطان فما تقوله حرام ولا يجب أن تفكر فيه واعلم أن الله سيعوضك وسيعوضها في الدار الآخرة

احمر وجه أبو إكرام وقال لشيخ القبيلة : ومن سيحميها في الدنيا؟

أجاب شيخ القبيلة مؤكدا : لنا ولك ولها الله .

وبينما كان الرجلان يتجاذبان أطراف الحديث سمعت طرقات في الباب فأسرع شيخ القبيلة ليجد ممرض القبيلة  يود تلقيح الأطفال .

قال الشيخ للممرض : ادخل مرحبا لقد حضرت في الوقت المناسب

أطلع أبو إكرام الشيخ والممرض على رغبته في طفل من ابنته وبعد تفكير عميق قال الممرض :

لدي حلان:الأول أن تربي طفلا من أطفال المؤسسات الخيرية، وفي ذلك صدقة وإحسان والثاني أن تمهلني حتى أسأل الطبيب؟

قال الشيخ بكل جرأة  : فأما الحل الأول فإنني  أرفضه لأنني أريد طفلا من صلب  ابنتي، أريده حفيدي ولا أريد أن تكون ابنتي أما مستعارة. 

ذاع الخبر في القرية واتهم الشيخ بكونه شيطانا ووصف بالكافر وأصبح حديث كل الألسنة وانقسم  سكان القبيلة حوله  : بعض الناس يجمعون على أن الشيخ أصبح به مس ولذلك فلا ينبغي محاسبته ، وبعضهم يقولون إن للشيخ نصيب من الصحة ومن حق ابنته أن يكون لها طفل بالطريقة التي يراها الأب  مادامت الغاية هي أن يطمئن على مستقبل ابنته ، وبعضهم حذر من التحرش بالبنت

ورغم ذلك فالشيخ يصر على أن يكون له طفل من ابنته.

تمر الأيام وتتوالى الليالي ، وكان الشيخ في كل ليلة يحكي لابنته إكرام عن أحاديث القبيلة فيقول : هل تعلمين يا إكرام سكان القبيلة يريدونك عانسا طول حياتك وحيدة وصامتة أبد الدهر ومن يدري فقد يكلمك ابنك عندما ترينه يحبو أو تسمعينه يبكي أو حين يناديك ماما إكرام.

أتعلمين أنه عندما كنت صغيرة أحب كلمة إلى قلبي هي بابا، كانت الكلمة التي تمحو تعب النهار، وتجعل حرارة اليوم القائظ على جسدي بردا وسلاما، حين كنت أسمعها من ثغرك الجميل ، أتعلمين يا حبيبتي أننا قد نحتاج لأطفال أكثر مما يحتاجون إلينا، لذلك  سامحيهم يا ابنتي فإنهم لا يعرفون ما أقاسيه من أجلك وما أعنيه بإصراري  أريد منك و لك طفلا.

أمسك الأب صحن الغداء البسيط  واتجه نحو إكرام، الجسد الممتد منذ 15 سنة وبلل الفوطة ليمسح بها شفتي وأسنان ابنته الوحيدة قبل أن يناولها أول لقمة .


وضع الصحن جانبا ورفع رأسها ثم وضع الوسادة وراء ظهرها وذهب لإحضار كوب ماء من المدلجة وحين أراد إطعام إكرام لاحظ أن دموعا  ساخنة تنساب من عينيها وبسمة تعلو شفتيها فضمها بين دراعيه وقال بصوت مرتفع : أعرف أنك تسمعينني وتفهمينني ، أعرف يا إكرام، إنهم هم الميتون... هم السبب... ولست أنت ، سأحيا من أجلك ومن أجل أن تدوم هذه البسمة على ثغرك الجميل ومن أجل أن أراك عروسا وأرى حفيدي بين يديك يمسح جبيني عندما أعود من العمل، ويكون لنا عكازة نتكأ عليها يا حلوتي و أغرودة تصدح مع طلوع كل فجر جديد ، إكرام ابنتي هل تسمعين ؟ مسح الأب دمعتي ابنته وضمها لصدره فأحس أن أنفاسها كفت عن الصعود والهبوط وجفونها كفت عن الارتجاف وسرت برودة في جسدها ثم علاها فجأة  اصفرار  فأسند جسدها للتو على الوسادة وغطى وجهها باللحاف وخرج للقبيلة يعلن انتصارهم وانهزامه.


مفتش تربوي وباحث في قضايا الاعاقة

11‏/10‏/2015

قصة للصغار "أطفال فوق نور الشمس"

      أطفال فوق نور الشمس

إعداد محمد مكاوي                                                             
                                                                     
                                                      
كان يا ما كان كا ن في قديم الزمان، أيام الجودة والنجاح والتميز والحق والإحسان ، كانت في إحدى القرى تسكن  طفلة مقعدة  صغيرة اسمها توف إتران*، عمرها سنوات ثمان، تعيش وحيدة يتيمة الأبوين .
تقتات توف إتران مما يجود به سكان القرية أو الجيران، رفضوا جميعا أن تتسول أو تشتغل كخادمة في البيوت، فتعهدوها بالسكن والعطف والحب الخالص والتمدرس والحنان.
اعتادت توف إتران حين تكون في طريقها للمدرسة أن تمر بكرسيها الكهربائي المتحرك على بيت والديها المتهدم فتسقي بقنينة مائها العذب شجرة الجوز، وترمي بعض حبات الشعير للعصافير، وتتمسح بيديها على  ما تبقى من الجدران ؛ وفي كثير من الأحيان تدخل زاحفة  لتجلس  في المكان الذي كانت تتقاسمه مع المرحومة أمها المطربة الشعبية الشهيرة  الشيخة باسو.
الكل في هذه القبيلة النائية الجميلة يعرفها باسم باسو الشلحة  التي كانت تطرب لصوتها الأمازيغي جبال الأطلس المتوسط الشامخة ؛ قدر لها أن تموت وزوجها في نفس الزمان و المكان؛ في ذلك اليوم المشؤوم  الذي فاض فيه أسيف أمقران*.
أطل عيد عاشوراء ، فسمعت توف إتران في كل أرجاء القرية طلقات لعب المسدسات الكهربائية و دقات الدفوف والطبول وزغاريد النساء وهن ترددن في حبور:
عيشوري عيشوري         حليت عليك شعوري
كديدة كديدة                   وملوية على العواد
أبابا عيشور جاء             يصلي وداه الواد
من سيشتري لك الهدية يا توف إتران، وأنت ما لك أب، ولا أم، ولا إخوان ؟
صمتت المسكينة توف إتران وكفت عن الكلام. أعادت صديقتها السؤال مرة ثانية وثالثة... وفجأة انسلت توف إتران إلى مكان بعيد لتجلس وحيدة تتأمل من الشرفة نور القمر على ماتبقى من  بيتهم القديم، وتترك نسيما عليلا يعبث بشعرها الجميل .
عندما نام الجميع وصمتت القرية إلا من نباح كلاب  هنا أوهناك .
زحفت توف إتران نحو بيتهم القديم باكية مستنجدة تدوس براحتيها وركبتيها  الحصى والأشواك وهي تردد في صمت رهيب  *أينك يا أماه ؟ أينك ؟ لم رحلت يا أماه؟
وفجأة رأت توف إتران هالة بيضاء من النور تغطي باب البيت القديم زحفت ورفعت رأسها فرأت عصافير جميلة جدا ترحب بقدومها وشمت رائحة طبخ شهي  تنبعث من المطبخ القديم
زحفت أكثر للداخل فسمعت صوتا عذبا يصدر من بعيد، خفق قلب المسكينة وقالت : اينك يا ماما ؟
فرد الصوت من حيث لا تدري: صغيرتي توف إتران أنا هنا دائما معك في كل مكان. كلي  واشربي وتعالي لأضمك يا حلوتي وأتابع لك حكاية الذبابة وقمر الزمان .
 فرحت كثيرا توف إتران فأكلت طعاما لذيذا وأسرعت للنوم في السرير لتسمع بقية حكاية الذبابة وقمر الزمان، وقبل أن تستسلم للنوم قالت لأمها : وأين هديتي يا ماما في عاشوراء « أنظري هاهي ذي يا حلوتي »، فأعطت الأم لتوف إتران علبة هدية جميلة.
 
حين أفاقت توف إتران وجدت قرب سريرها علبة ملفوفة بأوراق لماعة وخيوط ذهبية، وبطاقة صغيرة كتب عليها بريشة فنان : «عيد سعيد يا حلوتي»
حملت توف إتران في سعادة العلبة  وهتفت في إعجاب وحبور وفرح « هدية ماما ،هدية ماما» ففتحت بسرعة العلبة ووجدت بها كمانا صغيرا منقوشا بمختلف الأشكال والألوان .
خبأت توف إتران الكمان وسارت بكرسيها تسرع وتسرع فتراءت لها طريقا في السماء صعدته إلى أن سمعت الصوت العذب فقالت شكرا شكرا يا ماما على هديتك الجميلة.
قبلت توف إتران الماما وسارت بكمانها العجيب إلى الغابة الوارفة الأشجار.
كان الوقت يقترب من مغيب الشمس  أمسكت توف إتران الكمان، تماما كما يفعل الأمازيغي الأصيل الفنان، فبدأت تعزف وتعزف  فرأت أن طيورا كثيرة تقبل من كل الجهات وتردد معها الألحان  وأن أغصان الأشجار تتمايل لرقته  وفجأة بزغ في الوادي قوس قزح ورأت توف إتران أمها تحييها من بعيد وتردد عيد سعيد ياحلوتي.
اعتادت توف إتران أن تذهب  مساء كل يوم بكرسيها المتحرك صوب الغابة، كي تعزف وتغني مع مختلف الطيور أعذب الألحان، فتخبيء الكمان وتعود عند حلول الظلام لبيت الجيران .
في أحد الأعوام هجمت طيور كثيرة على حقول القرية الغناء، فالتهمت  فواكه الأشجار كالموز والبرتقال والتفاح، والتقطت جميع بدور الخضر ولم تترك أية سنبلة في الحقل فتحولت البلاد إلى قرية قاحلة وعم الحزن سكانها ولم يجدوا سبيلا للقضاء عليها.
بدأ سكان القرية يرتحلون الواحد تلو الآخر وخاصة عندما لاحظوا أن هذه الطيور الخبيثة تبتلع صغار الدجاج و تقتلع دون رحمة عيون الماعز والأبقار والخرفان .
خرج حاكم المدينة يطلب العون من الجميع ويرجوهم ألا يتركوا القرية وأن يفكروا في القضاء على هذه الطيور ويبعدوها من قريتهم الغناء
خرج البراحون للأسواق القروية  وللمساجد ولكل التجمعات،  يرددون: لا اله إلا الله ، ما تسمعوا غير خبار الخير أعباد الله لي قدر ينقد بلادنا من هذه الطيور الجائحة يغنيه الحاكم إلى غناه الله *    
 ذاع الخبر كالنار في الهشيم فجاء الأطباء والبياطرة والدجالون، لكن ما استطاع أي منهم  القضاء على هذه الطيور التي غزت القرية وحولتها إلى خراب .
وبينما كان الحاكم يتأمل ما آلت إليه القرية ويتفقد السكان المتبقين اقتربت منه توف إتران بكرسيها المتحرك فأمسكت بتلابيب جلبابه الفضي؛ وفي الحال جرى نحوها أحد الحراس فأبعدها قائلا: ماذا تريدين ألا يكفيك ما نحن فيه ؟
قالت توف إتران : أريد أن أتكلم مع الحاكم.
لاحظ ابن الحاكم شدة الحارس فقال: دعوا الفتاة تتحدث مع الحاكم
اقتربت من الحاكم فانحنى نحوها وهمست له في أذنه وقالت :
سيدي الحاكم أنا سأنقد البلاد والعباد من هذه الطيور الشداد.
ابتسم الحاكم وتساءل : وكيف ستفعلين يا صغيرتي ولم يستطع ذلك أمهر الأطباء والبياطرة والصيادين؟
مدت يوف أتران الحاكم بعلبة الكمان الصغيرة فقالت : بهذا يا سيدي الحاكم
تعجب الحاكم وأمسك الكمان فنادى على أمهر عازفي القرية حيث لاحظوا جميعا أن هذا الكمان غريب الأطوار وعندما حاولوا جميعا العزف لم تصدر منه ألحان.
فقال أمهر العازفين : دعنا يا سيدي الحاكم  من كلام الصبيان يكفينا ما نحن فيه من آلام وأحزان .
ألحت  توف إتران  وهي تجر كرسيها المتحرك؛ فاشترط عليها الحاكم أمرين :
أن تخرج الطيور من القرية أو يكسر الكمان.
قبلت توف إتران التحدي، فأمر الحاكم ببناء الخيام واستدعاء البياطرة والأطباء الذين حاولوا طرد الطيور وطلبوا جميعا من توف إتران أن تحضر قبل طلوع الشمس.
كان الجو يومها دافئا تتخلله بين الفينة والأخرى هبات نسيم عليل.
 أفاقت توف إتران ولبست أجمل اللباس وحملت علبة الكمان  وسارت بكرسيها المتحرك  تدوس الحصى والأشواك، إلى أن وصلت  للمكان الذي اختاره الحاكم.
كان الجميع في انتظار الطفلة ذات الكمان الغريب ....
توسطت الحضور من الناس وما هي إلا لحظة حتى حضر الحاكم وخلفه حاشيته.
أمر الحاكم توف إتران أن تبدأ العزف على الكمان.
قال أحد الحاضرين مستهزئا، ماذا ستفعل هذه البنت، إنها يتيمة لا حول لها ولا قوة، هل تصدقون أنها ستنقد قريتنا من هذا المصاب؟
حين أمسكت توف إتران بكمانها العجيب بدأ يصدر أعذب الألحان.
عزفت وعزفت وعزفت، فوقف الجميع بمن فيهم الحاكم لهذا اللحن الحزين.
اغرورقت عيون الحاضرين، وتلبدت السماء فتساقطت حبيبات المطر، وفجأة بدأت أسراب من الطيور الجائحة تردد مع توف إتران ما تصدره من ألحان،
تكاثرت الطيور فتوسطت الناس ورأوها تردد الأغاني كأنها إنسان.
زحفت توف اتران على الأرض ووضعت الكمان على صدرها واستمر يصدر الألحان .
أمسك الحاكم الكرسي و جلست توف إتران وساروا يخرجون الطيور من القرية، فتبعتهم تغرد وتغرد أعذب الأصوات، وحين وصل الجميع للغابة كفت توف إتران عن العزف، فمكتث  الطيور هناك  وأقاموا سياجا عليها  ففرح أهل القرية بأعمال توف إتران فأصلحوا جميعا الطرق والممرات وأدخلوا تعديلات على مدخل  المدرسة والمسجد  والحديقة  ليسهموا في وصول توف إتران لكل مكان .



ملاحظة: يمكن استثمار هذه القصة لغاية تربوية

* توف إتران : اسم أمازيغي يعني أفضل من النجوم

* اسيف أمقران: النهر الكبير

10‏/10‏/2015

غسيل المجتمع على أسلاك الافتراضي

غسيل المجتمع على أسلاك الافتراضي
إعداد: جواد الأطلس

ربما كان ينقص ما يجمعنا لنقول بصوت واحد وداعا للخاص والحميمي في حياتنا، يبدو أن عصر الاسلاك والكائنات المعدنية حل محل الفعل البشري ولغة العقول ليجردها من عباءتها التي تتستر وراءها قيمنا، بل أصبحنا نعيش في بيوت زجاجية على مرأى من العالم، ننفذ ما تطلبه الآلة في مرحلة زمنية تعقدت فيها أساليب الحياة بخروجها من البسيط في العلاقات والتواصل الاجتماعي المباشر والتقليدي إلى نوع وأسلوب يحرك الساكن ويثبت المتحرك، فإن أمعنا النظر رجوعا إلى وقائع قريبة من هذا الأسبوع قد نجد أن أغلب مجالات العصر المتعلقة بالفرد والمجتمع كانت كلمة الحسم لعالم إفتراضي اقتحم علينا أبسط الأشياء الخاصة بل شاركنا بها الخارجي والداخلي،صاحب القيمة والوضيع.
فما أن نفتح كل صباح تلك العوالم الزرقاء لمواقع التواصل الاجتماعي، حتى نجد وادي عريض يحمل كتلا ومخلفات الفرد من صرخات وجراح فرح وحزن... أو ما شابه ذلك من تنقلات داخل مجال تواجد مستخدم النت، ويشمل ذلك أيضا تفاصيله الخاصة على صفحات يقرأها العالم كله،لعل أبرزها قول الفتاة "ماما وصاتني ... أنا حامل ... أكلت كذا ... " أو من قبيل قول الشاب " أنا وحبيبتي انفصلنا ...أو تشاجرنا... "، حيث ورد في نفس الصدد تفسير لهذه الظاهرة في مقال بعنوان "حينما يصبح الافتراضي مذكرات حميمية"، صدر عن البروفيسور الباحث في علم النفس الاجتماعي مصطفى شكدالي، يعالج فيه إشكال الموضوعات الحميمية التي اصبحنا نشرك فيها من لا صلة لنا بهم والأقرباء أيضا، حسب مسافات العلاقة الاجتماعية.
إن الحميمي والثنائي الذي له طابع الخاص بنقله ومشاركته مع العالم ونشره على جدران يقرأها القريب والغريب معا، يجعلنا فعلا نعيش تشوهات على المستوى القيمي، ونؤكد أننا نقبل التواجد داخل غرف زجاجية يشاهدها العالم بأسره.
لقد أبان المجتمع في هجرته نحو العالم الافتراضي على أن القضايا الاجتماعية والموضوع الانساني دون قيمة لانفتاح النقاش ونشره أمام الملأ ما دام يستمد قيمته من سريته فأصبح مبتذلا. بل أقر الجيل الرابع أن كلا الرسمي والحميمي أرخص مما نظن، لما لا وقد أخطأ الوزير فأحضر رأسه أمام محكمة الافتراضي وتم تدارس حيثيات النازلة وجس نبض الجمهور وعجلوا بالرحيل قبل أن يشتد غضب الشارع وكأن مجتمع الوحدات والاصفار قنبلة وقوتة نخشاها أن تنفجر في وجوهنا. وكي لا نذهب بعيدا ولنستحضر شريط المعلم الذي لم ترحمه كائنات غردت ليل نهار بمجرد ظهور ما أطلق عليه بإسم "فضية المعلم و التلميذة " ناهيك عن "الدركي" الذي يظهر في شريط قصير أنه في أوج غصبه يسب ذا الجلال والإكرام.
هي أحداث خاصة بمؤسسات محددة لتنطق فيها، لنشهد دون سابق إنذار ظهور محامين لا علاقة لهم برحم الجسد القضائي، بل ظهور قضاة من مستخدمي الشبكة العنكبوتية يضربون بمطارقهم حكما على المذنبين من خلف هواتفهم الذكية، وربما من غرف نومهم .. يطلقون سيل من الفتاوي،و يصدرون أحكام غريبة لم تبث فيها قط أكبر الأجهزة القضائية عالمية،بل اختلطت الأمور وافرزت لنا مستنقع اجتماعي لن أقول افتراضي فهو الواقع بعينه ،يمكن لحد اللحظة التوقع منه إفرازات لن تجف ولو على حبال الواقي والافتراضي معا.



جميع الحقوق محفوظة لــ مقالات نافعة 2015 ©