24‏/12‏/2015

قصة قصيرة القيام من جديد

القيام من جديد
بقلم أمينة زوجي*

سار حسان في ذلك الليل الممطوط الذي لا يريد أن ينجلي بكوابيسه المفزعة، بلا هدف أو غاية مطأطئ الهامة، شارد الذهن والدياجي تكتنف جسده الهزيل وتخفي ملامحه المتجهمة، لقد انتهى كل شئ بالنسبة له في هذه الدنيا وضاع وسط الزحام.
لم يعد ذلك الأمل الوردي الساطع، يحلق في سماء روحه البريئة أو يغمرها بالسعادة والنشوة كما السابق، لقد كان ينسج بخياله الخصب السرمدي، عالما عذبا من المشاعر والأحاسيس الفياضة، منصبا حبيبته سلمى التي اعتبرها منذ عهد ليس بالقصير شطر روحه الأخر، ورفيقة دربه امبراطوة على عرشه، قبل أن تتكسر أحلامه وأمانيه، فوق صخرة الواقع المرير، ويصدم بمنظر فتاته التي كانت تعاهده وتقسم له بكل ما هو مقدس على أنه لا توجد قوة في هذا الكون تقوى على إبعادها عنه أو صرفها عن حبه غير الموت، في ديباجة العرس تزف إلى غيره، وعلامات البهجة والفرح واضحة على محياها.
فوقف العاشق المخدوع مشدوها حيال هذا المنظر الرهيب، الذي قوض أحلامه وأماله، وجعله يحقد على كل من في الأرض، أهذا هو جزاء الحب و الوفاء؟ لقد تحول إلى إنسان نكرة، حبيس داره وكتبه وخواطره الرومانسية، يرثي أيامه وأحلامه، أي ذنب إرتكب حتى يكون مصيره على هذا الحال، لماذا يصر الناس على تعذيبه وعدم رحمتهم له، ولو لمرة واحد على الإطلاق، كلهم يحقرونه، يصفونه بأرذل النعوت، وينظرون إليه نظرة ازدراء واستهزاء. 
كان يظن بأنه وجد الحب والحياة، كانت أمله ومنبره، كان يظن أنه بعد طول عناء، وجد من تقدره وتنسى أصله وفصله، وماضيه الذي لا يد له فيه، بيد أنه أكتشف الحقيقة المرة، أكتشف خداع محبوبته وسذاجته الحمقاء، عرف بأن لا مكان له بين هؤلاء الناس الذين تسري في عروقه دماؤهم، نمى وترعرع بينهم، أكل من خبزهم وشرب ماءهم، كان على إستعداد لأن يموت فداءا لأرواحهم، وصونا لكرامتهم، في الوقت الذي كانوا يعتبرونه وصمة العار التي تسمهم، إحتضنوه على مضض، فجعلوه لعبتهم، يتسلون بها أثناء فراغهم، يسلطون سخطهم عليه لحظة غيظهم.
عاد إلى غرفته المنبوذة فوق السطح، يتجرر أذيال الهوان، ليودع جدرانها المتصدعة، فلطالما شهدت على خيبة طموحاته وأماله.
لم تكن له وجهة معلومة بعد، لكنه حسم أمره على الرحيل بحث عن هوية وعن قدر جديدين.
كان يجمع أغراضه البسيطة المتناثرة في جميع أرجاء الغرفة، فوجد رسائل الحب والوله، تلك التي كان قد تسلمها كحجج دامغة على الوفاء، وكان يقرأها بقلبه الولهان لا بعقله الصاحي، يحفظ الكلمات ويرددها بكل خشوع واحترام، كما تردد الآيات والترانيم، فما كان يميز بين الكلمات النابعة من الفؤاد، وتلك المصطنعة، المنقولة حرفا من كتب الرسائل الجاهزة، التي تباع في المكتبات، في الاكشاك، وعلى الارصفة بأثمنة بخسة، الآن فقط أدرك بأن كل ما كانت تمنحه إياه من العطف والحنان، لم يكن سوى دغدغة مشاعر زائفة، ولحظات عشق من مسرحية مبتذلة إستمتعت بها ظرفا من الزمان.
أحرق الاوراق، وتلألأت عينيه العسليتين عندما إنعكست عليهما إضاءة ألسنة اللهب، أصر أن لا يغادر إلا بعد أن يرى الرماد يتناثر في الهواء لا حول له ولا قوة، وكان غرضه التخلص من معالم الخيبة وأثار جرائم نسبت له في غفلة من أمره، فيكون لرحلته في سبيل البحث عن قدر جديد معنى. 
حمل حقيبته، وغادر دنيا الأوهام، باحثا عن بداية جديدة في مكان ما، عازما على طي صفحة الماضي، ليواصل سيره إلى الأمام، أما الجراح والآلام فالزمن كفيل بأن يعالجها ويشفيها، ويجعلها جزءا من الذكريات والتجارب، فتكون له عون على سبر أغوار الحياة، فإذا تعثر سهل عليه القيام من جديد.


كتبت القصة القيام من جديد سنة 2004 بجماعة المعازيز، ونشرت في مجلة ديوان العرب في 25 يناير 2014



*طالبة بماستر تربية وإدماج الشباب والاطفال في وضعية صعبة بكلية علوم التربية



06‏/12‏/2015

قصة قصيرة النار تأكلني

النار تأكلني
 بقلم أمينة زوجي *


النار تأكلني كل يوم،

وبين دهاليز البلدية أقضي أيامي ذهابا وإيابا، أتأبط أوراقي وأتردد بين المكاتب أحمل آمال عمري الفان، تبتلعني متاهات تخصصات مبهمة، تتقادفني الابواب ككرة لهب، وينتهي بي المطاف بين يدي موظف متأنق لا يعي معاناتي، يجلس على كرسيه المريح كأسد متغطرس، ينهرني قبل أن تنبس شفتاي بكلمة، يتفحصني باحتقار، يحاصرني بعينيه المغرورتين بإشمئزاز، تخترقان ثوبي الرث فلا تجدان سوى بقايا جسد هزيل أنهكته نوائب الدهر رغم صباه، وحين ينتبه إلى حذائي الرقيع، وحقيبة يدي البالية تعتلي وجهه الممتلئ أعراض الغثيان.
أنكمش أمام هجمات عينية، أتضاءل أمامه كأنه الاله، فتهون أيامي رخيصة، لكن شيء ما بداخلي ينتفض، عرق حار يتصبب من جبيني، وحمرة كالدماء تجتاحني من عمق قهري، فلا أجد لي من ملاذ غير إستحضار عيون أطفالي البريئة مستغيثة... أحاول تجاهل الامر والتركيز على هدفي، أستجمع كلماتي المبعثرة فأنا صاحبة حق لا متطفلة، فأنا مواطنة ولي حقوق، أستفسر عن مطلبي بجرأة ، فيحاصرني صوت موظف آخر بنبرته الحادة يأتيني من عمق سحيق كرصاصة، يأمرني بالعودة في وقت لاحق.
"لم تتم دراسة ملفك بعد"
أعود غدا، أحمل أمالي وأحلام أطفالي بجدران أربع، وباب من حديد يحمينا من تقلب الفصول و تجهم أقرباء صارت أجسادنا المكدسة حملا ثقيلا عليهم .
أعود بعد أسبوع،
بعد أشهر،
ويبدو أن الايام صارت سنوات تجري، تعدوا بدون أي تغيير، فالموظف المتأنق مازال يجلس على كرسيه المريح بوجهه المتورد الممتلئ، والأخر مازال يأمرني بالعودة في وقت لاحق بلهجته الجافة، وأنا مازلت بجسدي الهزيل أتردد بين المكاتب أتأبط أوراقي، أنتعل حذائي الرقيع، ولا أهتم بمنظر حقيبة يدي البالية، لا يهمني إن صارت ألوان ثوبي مجهولة.
هذه المرة أعود وقد استنفدت رصيد صبري، سئمت نظرات الاحتقار والازدراء، وماعدت أطيق عبارات التأجيل، أعود وأحلامي تلاحقني، فأجدها قد تبخرت من دون علمي، يخاطبني المتأنق محاولا إخفاء إبتسامته الساخرة "آسف لقد تم استبعاد ملفك لأنه لا يستوفي جميع الشروط"
"مستحيل، أية شروط يمكن أن لا يستوفيها الملف وقد حرصت على إعداده بعناية".
"ينقصك زوج، المستفيدين بالنسبة لنا هم عبارة عن أسر مكتملة، وأنت مجرد أم عزباء".
الدنيا تدور من حولي بدون هدى، أشعر بتعرق شديد، وبرودة في ساقاي، يتوقف ذهني عن التفكير للحظات من هول الخبر، تكاد أنفاسي تختنق داخل صدري، أحاول أن أعترض، أن أصرخ بكل ما في من غضب فتخرج كلماتي مرتجفة، تتجمع دموعي في محاجرها، تنهمر مدرارا على جفوني فتحرق من فرط أجاجها مقلتي، وبين ضلوعي تستعر نار تتلضى، يتوهج قلبي كشمس تنتحر، فأجدني أشتعل كجمر محموم، النار تحاصرني كنظرات المتأنق، تخترق ثوبي الرث لتنفذ إلى بقايا جسدي الهزيل، تلتهم أحشائي بنهم شديد، أستنجد بحقوقي التي خلتها ستنصفني فلا تجيب، أستنجد بقطرة غيث من السماء فلا تستجيب، أحتضر وعيون أطفالي ترقبني، سأموت وغدا أصير رماد تشيعه أنباء في الجرائد والصحف.

إلى روح فدوى العروي و كل من احترق بنار الظلم


*طالبة باحثة بسلك الماستر تخصص تربية وإدماج الشباب والاطفال في وضعية صعبة بكلية علوم التربية


ملحوظة: تم نشر هذه القصة القصيرة بمجلة ديوان العرب بتاريخ الأحد 3 نيسان (أبريل) 2011.  
جميع الحقوق محفوظة لــ مقالات نافعة 2015 ©