العيب والحرام في
حياتنا المستقبلة
(الجزء الأول)
البديهيات التي
ننساها*
بقلم د. نوال السعداوي
هل يمكن أن يكون السلوك الأخلاقي لشخص
ما سلوكا أخلاقيا حقا إذا أجبر على القيام به؟ إن الأساس في الأخلاق لكي تكون
أخلاقا أن يقدم عليها الإنسان طواعية واختيارا وليس كرها واجبارا.
ومن هنا التناقض الصارخ الذي سقع فيه
الداعون إلى سن قوانين أخلاقية مثل قانون العيب وقانون الحرام، وغير ذلك من
القوانين التي تحاول بعض الأنظمة والحكومات فرضها على الناس.
إن فرض القيم الأخلاقية بالقوة والقانون والبوليس ينحدر بالإنسان إلى
حال أقل، ومرحلة متأخرة من البشرية حيث تكون هناك سلطة بوليسية خارج الإنسان تفرض
عليه سلوكياته وأخلاقه. ومن المعروف أن الإنسان لا يمكن أن يكون مسؤولا عن فعل
معين إذا كان قد أجبر على القيام بهذا الفعل. فالمسؤولية تنبع أساسا من حرية
الاختيار، والإنسان الذي لا يختار إنسان غير مسؤول.
إلا أن هذه الحقيقة البديهية الأولى
تغيب عن بال الكثيرين من الناس، وعلى الأخص هؤلاء الذين تخلوا منذ طفولتهم عن عادة
التفكير في الظواهر والتناقضات التي تحيط بهم. لا أبالغ إذا قلت أنني أتعلم من
الأسئلة والمناقشات التي تدور بين الأطفال أكثر مما أتعلمه من تلك التي تدور بين
الكبار. لكن المشكلة أن أسئلة الأطفال تضيع مع الزمن، ويكف الطفل عنها بعد فترة
قصيرة إما خوفا، وإما يأسا من الحصول على جواب.
أذكر أنني وأنا طفلة كنت جالسة أستمع
إلى أبي وهو يشرح لي أحد دروس الدين، وكيف أن حياة كل إنسان قد كتبت عليه قبل أن
يولد حسب مشئية الله. وإذا بي أسأل أبي هذا السؤال: ولماذا يحاسب الله الإنسان
ويعاقبه ويحرقه في النار إذا كان الله هو الذي رسم له حياته قبل أن يولد؟
معظم الأطفال يسألون هذا السؤال،
ومعظمهم أيضا يكفون عن هذا السؤال بعد أن يكبروا ويدركوا أن هناك أسئلة بغير جواب
خاصة فيما يتعلق بحكمة الإله، هذه الحكمة التي كثيرا ما يعجز عن فهمها العقل
البشري.
"عجز العقل البشري"، هذه هي
البالوعة التي تسقط فيها كل الأسئلة الهامة، وتسقط معها البديهيات في الحياة.
ويتعود الإنسان ألا يسأل، وإنما يتقبل ما يقدم له من أفكار أو قيم أو نظم دون
مناقشة، فقد استقرت في أعماقه فكرة عجز العقل البشري، والذي أصبح عجزا ليس في
مواجهة الإله الواحد القهار فحسب، وإنما أصبح عجزا في مواجهة أي حاكم واحد قهار،
وأي أب واحد قهار وأي سلطة قهارة.
لو أننا درسنا قليلا تاريخ الإنسان،
ولو أننا عدنا إلى التوراة والانجيل لوجدنا صورة الإله الطاغية المأخوذة عن صورة
الملك الطاغية في عهود الفراعنة المصريين وملوك الفرس الطغاة، هذه الصورة التي لا
زال يتغنى بها المسيحيون وهم يصلون قارئين آيات الانجيل هاتفين: "الرحمة، يا
أيها اللورد، يا ملك الملوك ولورد اللوردات". هذه الكلمات هي نفسها التي
استخدمت في بلاط الملوك والحكام. وكان الناس يركعون للملك أو الحاكم كما يركعون
للإله، ويجلس الملك على العرش وظهره إلى الحائط يحوطه رجال الحاشية على شكل نصف
دائرة، وهو الشكل التقليدي للمرحاب داخل الكنيسة حتى عهد قريب. إلا أن هذا الشكل تغير
الآن في العالم الغربي بعد انكماش دور الكنيسة وانتشار الأفكار والفلسفات المعارضة
لفكرة السلطة الإلهية الواحدة القابعة في السماء، وتأثر فلاسفة الغرب بالفلسفات
الهندوكية والبوذية التي انتشرت في السنين الأخيرة في أوروبا وأمريكا، وأصبح
الفلاسفة الجدد يقولون أن الله داخل الإنسان وليس خارجه.
وانعكست هذه التيارات الفكرية على شكل
المحراب داخل الكنيسة، حتى الكنيسة الكاثوليكية وهي الأكثر محافظة، قد غيرت من شكل
محرابها بحيث لم يعد الإله المسيح يجلس وظهره إلى الحائط وإنما أصبح يجلس في
"الوسط" ومن حوله حشود المصلين، وتعبيرا عن أن ممكلة السماء أصبحت داخل
الإنسان.
وكانت مثل هذه الأفكار من العوامل التي
ساعدت على تغيير شكل الأنظمة السياسية وانظمة الحكم في العهود السابقة، وكيف أصبح
نظام الملك الواحد الطاغي يختفي بالتدرج وتحل الأنظمة الجمهورية بدلا من الأنظمة
الملكية وتنتشر مفاهيم الديمقراطية بدلا من الدكتاتورية.
وقد نبعت هذه المفاهيم عن الديمقراطية
في العالم الغربي إبان القرنين الثالث عشر والرابع عشر من الضغوط الاقتصادية
الشديدة التي دفعت الرجال والنساء من العبيد والأجراء إلى الثورة للتحرر من قهر
السلطة الواحدة القوية التي تزهق أرواحهم وأجسادهم.
ومن هنا أيضا نبعت الفلسفة الصوفية في
أوروبا الغربية، فهي فلسفة تنشد الديمقراطية، لأنها تعني اكتشاف ما سمي "
بالنور الداخلي" داخل قلوب الناس جميعا، أو "نور الله" الذي ليس في
السماء فحسب ولكنه داخل كل إنسان سواء كان أجيرا أو اقطاعيا، حاكما أو محكوما.
هذا هو المفهوم الخطير الذي هدد وتحدى
سلطة الدولة والحقوق المقدسة للملوك والاقطاعيين. إنه مفهوم يكشف عن سلطة أخرى أو
قوة أخرى داخل كل إنسان، هي قوة الله أو الضمير داخل كل واحد من البشر، وهو يؤكد أن
كل الناس متساون في ضوء هذا النور الإلهي أو النطفة الإلهية التي يمتلكها العبد
الفقير بمثل ما يمتلكها ملك الملوك أو الاقطاعي الكبير. وكان الملوك والاقطاعيون
هم وحدهم الذين يدعون صلتهم بالإله ويقولون أن إله السماء قد أناب عنه الاقطاعي أو
الملك ليكون الإله فوق الأرض.
لكن هذه الفلسفات الجديدة شجعت الناس
العاديين على منافسة الملوك والحكام في حقهم في الإله، وسقطت فكرة الحاكم الواحد
في السماء أو فوق الأرض، وانتشرت فكرة تعدد الإلهة، وتعددت الآراء وبدأت مفاهيم
الديمقراطية تشق طريقها وتغير من أنظمة الحكم لنصبح أنطمة جمهورية ديمقراطية.
وكان من الطبيعي لهذه الأنظمة
الديمقراطية أن تتناقض مع المفاهيم الأساسية للأديان أن تتغير وتتطور. وقد تم ذلك
في معظم البلاد الصناعية المتقدمة في الغرب أو في البلاد الاشتراكية المتقدمة
صناعيا.
أما في البلاد التي لم تتقدم صناعيا
بالدرجة الكافية وظلت الأغلبية الساحقة من شعوبها أسيرة الجهل والفقر والاستغلال
فقد انتشرت بها الأنظمة الدكتاتورية وتركزت السلطة في يد فرد واحد بمثل ما تتركز
السلطة الإلهية في يد إله واحد.
وقد يحدث أحيانا في بعض هذه البلاد
المتخلفة أن تغير نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري ديمقراطي، إلا أن الديمقراطية تظل
جمهورية ديمقراطية لكنها في الحقيقة ليست إلا دكتاتورية ملكية. فقد تعود الناس
الاستعباد والخضوع سواء في مواجهة قوة عليا في السماء أو قوة عليا فوق الأرض.
*المصدر: جزء مقتطف من مقال
للكاتبة نوال السعداوي، بعنوان العيب والحرام في حياتنا المستقبلة، مجلة دراسات
عربية، العدد 3، ص 3-4-5. يناير 1980.