الراتب
تأليف أمينة زوجي*
منذ ثلاثة أيام، وعباس
لا هم له سوى إعداد قائمة
بلائحة المشتريات، التي ينوي اقتناءها، حالما يتسلم راتبه لهذا الشهر.
زوجته ثريا كالعادة، لها
مطالب عديدة، تريد شراء بعض الأواني بدل تلك التي راحت ضحية شغب أبناء أختها
الاشقياء، عندما حولوا البيت في آخر زيارة لهم، إلى حضيرة للعب والعراك، كما ترغب
بشدة في إستبدال بعض قطع الأثاث المهترئة، التي صارت تشهد على عرس الأجداد كما
كانت تصفها في لحظات النرفزة.
وكان حسام ذو السبع
سنوات، يحلم بالحصول على دراجة زرقاء، من نوع "فيتتي"، مثل تلك التي اشتراها
"عمر" إبن الجيران، منذ أسبوعين.
أما عباس فقد كان يعلم
علم اليقين، أن الراتب لا يستطيع تحمل أعباء كل تلك المطالب، بالإضافة إلى واجبات
الكراء، ونفقات الماء والكهرباء، ومستلزمات الأكل والشرب، ودواير الزمان...، لهذا
قرر إقامة اجتماع طارئ مع الاسرة الصغيرة، للتفاوض في أمر المصاريف.
بيد أن كل طرف، كان
متشبث برأيه بشكل متعصب، لا يقبل التنازل، بيمنا وقف الاب بينهما حائر، يفكر في
الاشياء التي يمكن تأجيلها، لصالح الاشياء التي يجب إعطاءها الأولوية،
غير أن النقاش لم يؤد إلى أي نتيجة إيجابية.
قام عباس غاضبا، ليعلن
عن فشل الاجتماع، وعليه فإن الامر لم يعد يحتمل النقاش والتفاوض، ومن ثمة فالقرار
الاخير سيعود إليه وحده.
حاول الولد الصغير تغير
مجرى الامور لصالحه، مستعملا أسلحته الطفولية
من قبيل البكاء والصراخ، فأصبحت ثريا تلعب دور الوسيط بين الزوج العنيد والابن
الثائر، بدون فائدة.
قرر الاب باعتباره المسؤول
الوحيد عن تدبير وسائل العبور الي بر
الأمان، تقرير مسار الاسرة وتحديد أولوياتها، فعزم على تأجيل شراء الدراجة على
أساس أن يتم إقتناؤها في وقت لاحق حينما تكون الفرص متاحة، أمام قطع الاثاث فهو
مطلب مرفوض كليا، وغير وارد التحقيق هذه السنة، في حين أعلن أنه لا ضير في اقتناء بعض الاواني الضرورية فقط.
بسبب هذا القرار الذي إعتبره
باقي الأطراف مجحفا في حقهم، دامت العلاقات الداخلية متوترة لفترة من الزمن، وما
هي إلا أيام حتى نسي الطفل الأمر كليا، وعادت إبتسامته إلى سابق عهدها تزدان بها
جميع أرجاء البيت، أما الزوجة فقد حاولت التظاهر بالنسيان، على أمل أن تجديد
مطالبها عندما تصبح الفرصة سانحة.
جاء اليوم الموعود، 22
من نيسان، كان يتميز بجو دافئ ورائق، بعث في عباس نشاط غير مألوف، فلم يتذمر من
رذاءة وجبة الفطور، ولم ينتبه إلى كون طعم الشاي يفتقر إلى نكهة 'النعناع' الذي يعتبره أساسيا، إرتدى معطفه
"الطرواكار" المفضل، سرح شعره أمام المرآة، فلم يعلق كالعادة على بروز
بعض الخصلات البيضاء، ثم خرج من المنزل مسرعا في إتجاه مقر عمله.
عباس إنسان بسيط،
طموحاته لا تتعدى الوظيفة التي يشغلها منذ عشر سنوات، ومبدأه في الحياة الستر
والعيش بسلام إلى غاية أخر يوم في الشهر، في حين كانت الاستدانة بالنسبة له، أبغض
الطرق إلى مواجهة المشكلات، فكان يرفض أخذ سلفة من أي أحد مهما بلغت ضائقته.
إلا أن عباس، كان من
النوع الذي يرضى بأقل الايمان، فلم تكن له أهداف الترقي أو التجديد في أساليب
العمل، بل لم يكن يمارس عمله بشكل حماسي، ولا يحس بمتعة هذا العمل، إلا يوم تصرف الأجور.
عينيه لاتنفك تتفحص ساعة
يده، متسائلا عن سبب تباطئ الزمن فجأة،
فكان يخيل إليه أن عقارب الساعة تتقاعس عن التقدم نكاية به.
نادى المحاسب في
الموظفين ليستلموا رواتبهم، لو يعلم هذا المحاسب حجم المحبة التي يكنها له عباس
وجميع العمال والمستخدمين في الادارة، فهو مفتاح السعد والخير، يهل عليهم بنوره في
22 من كل شهر، ليسلمهم رواتبهم، بعدما تكون جيوب معظمهم قد فرغت وصاروا على
الحديدة.
تسلم عباس راتبه كاملا،
من دون أي إقتطاعات، فهو يتجنب كل ما يمكن أن يؤدي إلى بتر سنتيم واحد من راتبه،
على غرار التغيبات غير المبررة، إرتكاب الاخطاء المهنية، عصيان الاوامر، والمشاركة
في الاضرابات... لم يكن محبوبا في عمله، وكان جل زملائه يعتبرونه أنسانا سلبيا،
ليس له موقف واضح في الحياة، لهذا لم يكن له في العمل أصدقاء حقيقيون.
إنتهى الدوام، فغادر
عباس على عجلة لتبشير ثريا، غير أنه قبل عودته للمنزل قرر أن يشتري بعض الأشياء للاكل، ليبدل روتين
أكل البيت من جهة، وليفاجئ زوجته وطفلهما من جهة ثانية، في محاولة لإرضائهما وتطيب
خاطرهما بسبب قمع مطالبهما.
دخل محلا يبيع جميع
أصناف المأكولات التقليدية والعصرية على حد سواء، إحتار في الاختيار، فلم يكن
متعود على التردد على مثل هذه الاماكن إلا نادرا، لم يصل دوره إلا بمشقة قصوى،
بسبب الازدحام الذي يعم المكان، أسر لنفسه حينها:" يبدو أن كل هؤلاء حصلوا
على رواتبهم اليوم".
أعتقد المسكين أن هذا
الازدحام غير معتاد، وأن جل الناس لا يترددون على مثل هذه المحلات إلا في
المناسبات الخاصة.
وبعد طول إنتظار وترقب،
تمكن عباس أخيرا من الحصول على ما يريد، كان قد نال منه التعب، من شدة الحر الناتج
عن الازدحام وعرق الزبائن، وأبخرة المأكولات …
في طريق العودة، قرر أن
يستقل سيارة أجرة، على الرغم من بعد المسافة وإرتفاع التكلفة، قرر خوض التجربة، فليست
كل الأيام تحمل رقمين جميلين مثل"22"، والوصول إلى البيت على جناح
السرعة مغري في يوم كهذا، حين يكون "البزطام" منتفخ، والجيب ممتلاء.
أخذته إستيهاماته إلى
عالم لذيذ، لم يستيقظ منه سوى على وقع الكارثة، حاول إخراج محفظة جيبه، فلم
يجدها... إنها مفقودة...إصفر لون بشرته، أحس بالغثيان من هول الصدمة، مجرد التفكير
بالموضوع يربكه، هل سقطت في لحظة غفلة، هل نسيها في مكان ما، لا لقد تعرض لعملية
نشل في غمرة الازدحام، ضاعت المحفظة وطار الراتب.
صيف 2009
*طالبة باحثة بسلك الماستر تخصص تربية وإدماج الشباب والاطفال في وضعية صعبة بكلية علوم التربية
عبر البريد الالكتروني: a.zaouji@gmail.com