مولانا الشخص المعاق والطريق غير المسلوك
بقلم: محمد مكاوي
اليوم
هو يوم القيامة، "والليلة هي ليلتو"؛ كما يقول أهل قريتي في كل عيد عاشوراء لتردد باقي الفتيات الأخريات، وهن
ينقرن بأناملهن على الدفوف: "الليلة يموت العدو". ركبت كرسي المتحرك، و
التزمت كباقي المواطنين أن أودي واجبي الوطني .. المشاركة في الانتخابات، واختيار
مَنْ يمثلني في المؤسسات التشريعية، ولِم لا وكل دروبي مزينة بألوان الأحزاب، وكل
المرشحين طرقوا بابي؛ منهم من وعدني بالشغل، ومنهم من وعدني بكرسي جديد، ومنهم من
التزم بالتنازل عن راتبه من أجل الصالح العام، ومنهم من أراد إعادة الكَرة مثنى وثلاث
ورباع ووووو... إلخ؟
وحتى
أعوان السلطة ألحّوا عليّ للحضور حين مَدّوني بتوصيل يحمل رقمي ورقم مكتب التصويت.
توكلت على الله، وامتطيت كرسي المتحرك، أجرجر عجلاته بين دروب تمنيت، منذ أكثر من 40
سنة أن يتم إصلاحها.
انطلقت
يوما كاملا قبل الانتخابات. ودعت أسرتي، وحملت معي بطاقتي الوطنية وبعض الزاد، وسافرت
نحو مكتب التصويت الذي يوجد في مدرسة قديمة في أحد الأزقة القريبة من حينا، وأنا كُلّي
أملٌ في أن أصل في الوقت المحدد.
في
درْج باب دارنا، زلّت عجلة الكرسي المتحرك؛ فارتطم جسدي بالأرض، وهمّ المرشحون - لأول
مرة - بمساعدتي كي أستوي. نفضوا الغبار عن ظهري، ووعدوني جميعا؛ كما فعل السابقون
منهم، بأن يُصْلحوا المداخل والمخارج، وأكدوا لي أنهم إذا وصلوا سأصل أنا أيضا...
قلت
في غضب، ويدي تدوس على مقود الكرسي، وأحركه جيئة وذهابا: لقد وصلتم منذ القديم،
وما زلت أنا والدرج في مكاننا!
قالوا
بأدب: هذا عهد جديد.. عهد دستور 2011، الذي يحارب التمييز على أساس الإعاقة.. عهد
القوانين والإنصاف وحقوق الإنسان، وبدأوا يَعْرضون عليّ القوانين والتشريعات الدولية
والوطنية، وذكّروني بالمبادئ الثمانية للاتفاقية الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة، واستعان
بعضهم بخطب أشباه الزعماء، الأموات منهم والأحياء، وقالوا: انظر، يا مولانا الشخص
المعاق، إلى برامجنا، وستعرف أنّ الآتي أسوأ، عفواً: أحسن من الآن.
دفعت
العجلة ببطء، واندفعت بصوت أزيزها في أذني، وساروا يودعونني، وكل واحد منهم مدّني
بصور الشياطين الملونة، والكلام الذي يشبه العزيمة الشَّمْهارُوشِيّة"!...
في
الزقاق الأول أوحالٌ جفت منذ شتاء 2000، وبقيت آثار أظلاف حمير مرّت من هنا، وفيها
منحدر خطيرٌ على الكرسي المتحرك. تعطلت فرامل كرسيي فجأة؛ فاندفع الكرسي المتحرك بسرعة
دون إرادتي. صارت حركاتي على الكرسي كالراكب على بغل.. هبوط وصعود، ثم هبوط وصعود،
فارتعاد قوي وكأنني مُمْسك بتيار كهربائي.
في
نهاية منحدر الزقاق فتحة وادٍ حارّ سُرق غطاؤها الحديدي. وجدت نفسي أسبح وسط مياهها
العادمة وعجلات كرسي المتحرك مشتتة.
للمرة
الثانية يسرع أناس يرتدون لباس ألوان الأحزاب، وكلهم يشتمون ويلعنون الحكومات
السابقة، وينبهونني بأنها هي التي أهملت هذا الزقاق، وأن الأمل معقود عليهم.
ارتطمتْ
جبهتي بفتحة "القادوس"؛ فسال كثير من الدماء على الأرض، وتمزق سروالي،
وتشتت مسامير كرسيّ المتحرك وعجلاته.
بتّ
الليلة أمام بقايا كرسيّ الجميل، الذي أصلحته عشراتِ المرّات من عرق جبيني... ورغم
أن بعض الأحزاب عرضت علي كراسي جلدية وثيرة، أو النقل عبر سيارة فارهة، أو عبر
الطائرة، إلى مكتب التصويت إن شئت، فقد أبيت وألحَحْت أن أشارك العرس الوطني، وأن
أدلي بصوتي الذي لن أدعه لأحد.
ولأن
المصلحة الخاصة في صوتي، لا في شخصي، فقد شُكّلت حكومة مصغرة للطوارئ في الدرب، شهدت
تحالفا غريبا بين الذئب والنعجة والكلب؛ من أجل إصلاح الحفر وكرسيي المنكسر،
ضمّدت
جروحي، وشَدَدْتُ يدي إلى كتفي، (ثم) نُفِخت عجلات كرسي، التي رَفَضْت تجديدها منذ
زمان، حتى لا يقال إنني انتهازي، وكَويت مساميره، وتناولت بعض الطعام من زادي، وواصلت
السير في اتجاه الزقاق الثاني بكرسيّ الحبيب، الذي ازداد صوت أزيزه أكثر من ذي قبْلُ.
غمام
كثيف في نهاية الزقاق الثاني يحجب اسم المدرسة التي سأدلي فيها بصوتي،
الوقت
يشير إلى الخامسة مساءً، وأنا أقترب من المدرسة...
قلت
في نفسي: لم يتبقَّ لي إلا ساعتان، وأظهر لهم بأننا - نحن المعاقين - لنا الحق
الكامل في الاختيار والتصويت والمواطنة
والكرامة.. لنا الكامل الحق في جميع مؤسسات بلدنا؛ من الصحة إلى التعليم إلى السكن
إلى الشغل.. نحنُ المعاقين نستطيع الوصول والبناء، وإننا نحن المعاقين لسنا عالة
على أحد.ّ..
أمام
باب المدرسة، يقف عددٌ هائل من الناس.. ممثلو السلطة، وممثلو الأحزاب، و ثلة من المواطنين
.. كلهم ينظرون إليّ بدهشة، وهم يضعون أياديهم على آذانهم تفاديا لسماع صوت أزيز
عجلات الكرسي المتحرك الذي لا يطاق، وكأني قادم من كوكب آخر!.. جسمي
ملطخ بالوحل، ويدي اليمنى مربوطة إلى عنقي، و ضماد ملفوف على وجهي ورأسي، وروائح
كريهة تنبعث من ملابسي المغمورة بالمياه العادمة...
استوقفني
أحدهم في باب المدرسة:
-
إلى أين...؟
-
أريد أن
أصوّت.
-
هل أنت
بخير؟ .. ما بك؟
لملمت أنفاسي، وقلت في ضيق: وأنا في طريقي إلى
هنا "مدرسة الأمل"، ارتطم كرسيّ المتحركُ بالعديد من الحُفر والعقبات
والعقليات والسلوكات المُعِيقة للوصول، ثم مددت له البطاقة الوطنية، فابتسم حتى بانت
أسنانه المهترئة، وقال، وهو يعيدها إليّ:
- اسمك في الطابق الثالث، المكتب رقم 60،
وليس أمامك إلا الموت أو الصبر أو
الانصراف.
ازداد
غيظي، وبدأت أزبد وأرعد؛ فاندفع جسدي ليرتطم مرة أخرى بالأرض ككيس مملوء عن آخره بالرمل،
وتفككت كل أسلاك الكرسي المتحرك من جديد؛ فاندفعت أجَرْجِر جسدي أمام ناظرهم على
الأدراج، غير آبهٍ بأسلاك الكرسي، ملحّاً على الوصول...
أخبركم
أنه بالأمس أغلقت مكاتب التصويت، وأعلنت النتائج، وعُيّنت الحكومة، ورَسمت تقارير
الخونة صورا وردية عن كثافة المشاركة، وأنا ما زلت في طريقي الطويل نحو المكتب اللعين!...