27‏/11‏/2017

التفاؤل الزائف والواقع المرير

التفاؤل الزائف والواقع المرير
 بقلم أمينة زوجي

غالبا ما نصادف عند اجتياز الامتحانات والمباريات المهنية، أسئلة حول استراتيجيات التنمية الاجتماعية والبشرية في المغرب، ودورها في الحد من ظاهرة الفقر، بيد أنه لم يطرح مسبقا أي سؤال عن استراتيجيات مكافحة سياسة التفقير، وعلينا كراغبين في الحصول على وظيفة وتوديع صفوف العطالة، أن نحرص على صياغة مقال وردي، يتفنن في تعداد حسنات الحكومة في بلورة هذه الاستراتيجيات، وما حققته من نتائج عالية الجودة، في حين تبقى أي محاولة للنقد أو التقييم معرضة للإقصاء التام، فنحن مجتمع يتخوف من هؤلاء الذين يجيدون حرفة النقد، يكره مواجهة الحقائق، ويخشى تسليط الضوء على نقاط ضعف برامجه، أو بالأحرى نقاط ضعف طريقة تطبيق هذه البرامج، فقد تعلمنا في إطار الاعداد لمباريات التشغيل، أنه حتى حينما يطلب منك الإدلاء برأيك الشخصي المعارض، عليك تقديمه بشكل دبلوماسي لبق، لتأتي التقارير الدولية لتقول ما نعجز عن قوله بشكل مباشر، حيث نجد أن المغرب لا يحقق أي تقدم في سلم التنمية البشرية، بالرغم من هذه الجهود المبذولة، وذلك باستقراره في المرتبة 130 حسب تقرير التنمية البشرية لسنة 2013، وهي مرتبة متدنية ومخزية في نفس الوقت.
لا أدري أين الخلل بالضبط، فحين نفتح القنوات التلفزيونية الوطنية نجد الحكومة تعمل على قدم وساق، نشاهد كما هائلا من التدشينات الضخمة، ونسمع عن ابرام عقود واتفاقيات دولية هامة... للوهلة الأولى تبدو لنا الانجازات عظيمة جدا في مجال التنمية الاجتماعية، والإحصائيات متفائلة على الاوراق دائما، فنسبة الفقر حسب الأرقام الأخيرة المتوفرة لدى المندوبية السامية للتخطيط لا تتعدى 8,9 في المائة، أي أقل من نسبة الفقر في الولايات المتحدة الامريكية نفسها، وحينما نتأمل عدد البرامج المسطرة بهدف تقليص نسبة الفقر والهشاشة الاجتماعية، وما يتخللها من مشاريع منجزة وأخرى في طور الانجاز، نتساءل عن السبب الذي يجعلنا رغم كل ذلك، لا نرى في هذا البلد السعيد غير ملامح البؤس والحرمان، تطالعنا مظاهر الفقر ومشتقاته من الظواهر الاجتماعية في كل مكان، في القرى والمدن على حد سواء، قد تؤلمنا أحيانا بما تخلفه في أنفسنا من آثار، وقد تكون سببا في إزعاجنا والتضييق على حريتنا أحايين أخرى كثيرة.
نعلم جميعا أن ظاهرة الفقر من بين الظواهر الأكثر انتشارا في العالم كله، وخصوصا في العوالم القروية بسبب ضعف الموارد، وغياب عدة محددات رئيسية، تتمثل في انعدام الولوجيات على غرار المراكز الصحية، الطرق والمدارس...، وترتبط في المدينة بقلة الامكانيات والكفاءات المهنية التي تخول لكل فرد الحصول على عمل يقيه من قسوة الفقر وتبعاته
ونرى أن المغرب بإيعاز من الدول المتقدمة، عمل على الانخراط في سيرورة محاربة الفقر والتقليص من تداعيات الاقصاء الاجتماعي والهشاشة الاجتماعية، وذلك عبر تبني سياسة اجتماعية تسعى إلى تحسين نوعية حياة الأفراد، تحقيق الرفاه، وضمان تكافئ الفرص، وقد تمثل ذلك في قيام المغرب بالاستثمار في مجال التنمية الاجتماعية بخلق مجموعة من المؤسسات، والتي تضطلع إلى جانب وزارة التضامن، المرأة، الأسرة والتنمية الاجتماعية، وباقي القطاعات، بمهمة تنفيذ برامج تنموية هدفها تمكين الساكنة الهشة والفئات التي تعاني من العوز المادي والوظيفي، نذكر من بينها التعاون الوطني، منظمة محمد الخامس للتضامن، ووكالة التنمية الاجتماعية، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بالإضافة إلى مؤسسات القروض الصغرى.
وتبدو لنا منهجية هذه المؤسسات من الناحية النظرية على الأقل فعالة وشمولية، حيث تختلف طرقها في التعاطي مع مسألة محاربة الفقر، ففي الوقت الذي نجد فيه مؤسسة كالتعاون الوطني تتكفل بتقديم المساعدات المادية أو الخدمات كالإسعافات، الأدوية والملابس...نجد مؤسسات أخرى تهدف إلى خلق فضاءات اجتماعية لاحتواء الأشخاص في وضعية صعبة كدور المسنين، وبناء مراكز لإيواء المعاقين والأطفال المتخلى عنهم، من أجل القضاء أو التقليص من بعض الظواهر الناتجة إما بشكل مباشر أو غير مباشر عن الفقر، كالتشرد، التسول والانحراف...
وتعمل مؤسسات أخرى بمبدأ الانتقال من دور المساعدة المادية إلى دور التمكين والتأهيل، عملا بالمثل الصيني "لا تعطيني سمكة ولكن علمني كيف اصطاد"، عبر تشجيع المشاريع الصغرى وتعلم الحرف، لجعل الفئات التي تعاني من الهشاشة والاقصاء الاجتماعي والتهميش، قادرة على الانخراط في النسق الاقتصادي وبالتالي تحسين وضعيتهم المعيشية.
غير أن استمرار تفاقم ظاهرة الفقر، مؤشر على أن الجانب التطبيقي لهذه المؤسسات لا يوازي الجانب النظري، وشخصيا أشك في مدى قدرة هذه المؤسسات على مقاومة شبح الفقر في المغرب، لا لمحدودية مواردها ولا لضعف إمكانياتها، بل بسبب فساد الذهنيات وشيوع ثقافة النزوع لخدمة المصالح الشخصية لدى الكثير من المسؤولين، فنحن كمواطنين عادين، نلاحظ أن المساعدات والإعانات المقدمة من طرف بعض الجهات، لا تصل إلى من يستحقها دائما، بل تخضع للاستغلال والمساومة، فقد تستعمل في الترويج للحملات الانتخابية المبكرة، وقد يحصل عليها ميسورين بأثمان زهيدة أو مجانا، وربما أقرب مثال يمكن التركيز عليه، يتمثل في بطاقة "راميد" المخصصة للمعوزين للاستفادة من الخدمات الصحية مجانا، والتي تمكن حسب ما أوردته بعض الصحف الوطنية أزيد من 220 ألف ميسور الاستفادة منها على حساب الفقراء، بتواطؤ مع بعض رجال السلطة.
دائما وللأسف نجد أنفسنا أمام عملية استغلال المناصب والنفوذ، لاحتكار خيرات البلاد، وهنا نستحضر حالة الموظفين الأشباح الذين يتقاضون رواتب شهرية مقابل عمل لم يؤدوه يوما ما، ونفس الشيء ينطبق على "الكريمات" والتي هي عبارة عن هبات ملكية، يفترض أن تمنح إما للأشخاص الذين ساهموا في رفع راية المغرب في المحافل الدولية في مجال معين، أو تمنح للأشخاص المعوزين على سبيل المساعدة والإعانة كالمعاقين أو النساء بدون موارد...، غير أن الكثير تمكنوا من الحصول عليها عبر الادعاء والخداع.
أعتقد أن ما نحتاجه لمحاربة الفقر قبل إنشاء أي مؤسسة، أو تسطير أي برنامج، هو محاربة بعض الذهنيات السائدة، مقاومة شبح الجشع المستشري في هياكل المجتمع، حيث صار كل شيء يباع ويشترى بدون وجه حق، الوظائف، الاعانات، الأدوية والقيم كذلك أصبحت مجردة من محتواها الأخلاقي.
إن الفقر ليس قدرا أو قضاء إلهي محتم، يجب التسليم به، على أساس أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسة مائة سنة، بل هو فعل إنساني مقصود أو غير مقصود نتيجة استحواذ فئة صغيرة على خيرات فئة أخرى لا تدرك أن لها حقوقا، في إطار تقاعس أو تواطؤ الجهات المنوطة بحماية وضمان هذه الحقوق، ويمكننا بالأحرى اعتبار أن الفقر ما هو إلا نتيجة سياسة تفقيرية، يمارسها كل إنسان ساهم بشكل من الأشكال في استمرارا ممارسات فاسدة في المجتمع ولو بالصمت وعدم الاكتراث، ونختتم هذا المقال بقول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي "اذا رأيت فقيرا في بلاد المسلمين فاعلم أن هناك غنياً سرق ماله".


*باحثة في علم الاجتماع

ملحوظة: نشر هذا المقال بموقع ديوان العرب بتاريخ السبت ٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٤  

23‏/10‏/2017

الإسلام السياسي وأزمة الانتماء في ضيافة العدد الجديد من مجلة ذوات

الإسلام السياسي وأزمة الانتماء في ضيافة العدد الجديد من مجلة ذوات


 إعداد قسم التحرير

يتمحور ملف العدد الجديد من مجلة ذوات الثقافية العربية الإلكترونية الأربعون، حول موضوع "الإسلام السياسي وأزمة الانتماء"، هذا الموضوع الشائك الذي يحظى في الوقت الحالي باهتمام كبير بالنظر إلى القضايا الجدلية المنبثقة عنه، حيث حاول الملف الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الشائكة على غرار: هل يعتبر الإسلام السياسي رد فعل على أزمة هوياتية؟ وهل يمكن اعتبار الإسلام السياسي قومية ذات هوية دينية؟ وهل ترتبط ظاهرة الإسلام السياسي بتصورات وتأويلات خاصة للإسلام؟ وما موقع فكرتا الوطن والأمة في بناء الإسلاميين لهوياتهم الخاصة؟ وما هو تأثير الحداثة والعولمة والغرب في ترسيخ الانتماء الديني كأهم عناصر بناء الهوية الإسلامية لدى الحركات الإسلامية السياسية؟

قام بإعداد الملف الباحث والمترجم المغربي حسن أحجيج، وساهم فيه مجموعة من الباحثين من مختلف أنحاء العالم العربي، ومن مرجعيات علمية متعددة. حيث ضم أربعة مقالات هي: "الإسلام السياسي وأزمات الهوية، والغرب، والحداثة" للباحث إسلام سعد" و"مرجعيات قاتلة..الخطاب الدعوي وأوهام الاستلاب الهوياتي والقومي" للباحث عبد الله هداري، و"الإسلام السياسيّ و مشكلة الانتماء: هويّات ناجزة في عالم متغيّر" للباحث أنس الطريقي، و"تديين الدولة الحديثة توفيق أم تلفيق؟ البيعة والعقد الاجتماعي أنموذجاً" للباحث عبد الباسط سلامة هيكل، إضافة إلى حوار أجراه معد الملف مع الأكاديمي المصري أشرف منصور.

تشتمل المجلة على أبواب أخرى تضم مقالات في مواضيع مختلفة، وهي باب "رأي ذوات" وباب "ثقافة وفنون"، وباب "حوار ذوات" وباب "سؤال ذوات".

وتجدر الإشارة إلى أن مجلة ذوات، هي مجلة عربية شهرية، صادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انطلقت سنة 2014، ورئيسة تحريرها الصحفية سعيدة شريف.


رابط الاطلاع على المجلة: 
رابط الاطلاع على العدد بصيغة pdf 


11‏/07‏/2017

البطل الشيطان في كفر دلهاب

البطل الشيطان في كفر دلهاب

بقلم أمينة زوجي


خلفت الحلقة الأخيرة من مسلسل كفر دلهاب صدمة كبيرة في صفوف متتبعيه، ولاسيما الدقائق الأخيرة من الحلقة، حين يكتشف المشاهدون أن البطل الذي تعاطفوا معه، وساندوه منذ الحقلة الأولى من أجل تحقيق العدالة، ما هو إلا الشيطان دلهاب نفسه.

ربما احتاج المشاهدون إلى إعادة الحقلة أكثر من مرة لاستيعاب ما حدث، فعوض أن يتم اختتام المسلسل بفرحة الانتصار، كما كان منتظرا، بعدما تم افتضاح أمر المذنبين،  سواء الذين اشتركوا في قتل الفتاة البريئة ريحانة بعد الاعتداء عليها جنسيا، أو الذين اشتركوا في الغدر بوالديه بدافع الطمع والغيرة.

تكشف الحلقة الأخيرة أن غاية الطبيب سعد أو شهاب الدين لم تكن هي إظهار الحقيقة وتحقيق العدل، بقدر ما كانت هي تحقيق غاية الشيطان، المتمثلة في  استغلال البشر  عبر تحفيز دافع الانتقام لديهم  ولو على حساب الأبرياء. فالانتقام لا يمكن أن يتحقق دون الاساءة للآخرين، وقد تم ذلك في كفر دلهاب من خلال نشر الأمراض بين سكان الكفر، والتسبب في تعطيل أرزاقهم وتجارتهم. ويقول سعد الطبيب مخاطبا هند التي أصيبت بالذهول بعد اكتشاف تعرضها للخداع وأن ما كانت تحارب من أجله كان مجرد وهم: إن العدل لم يتحقق، فرغم تعرض المذنبين للعقاب الشديد، إلا أن لا أحد منهم تمت محاكمته محاكمة عادلة.

في الدقيقتين الأخيرتين يعلن البطل عن شخصية الشيطان بشكل صريح، بقول إن الخدعة القديمة تعيد نفسها، وأن البشر يقعون في نفس المصيدة دائما أمام الأمل الزائف، وهنا نفهم أنه يشير إلى قصة آدم وحواء مع إبليس، ويصرخ أنا أفضل منهم، أنا الرابح، أنا الذي سأظل أعيش مادامت الأرض ترتوي بدم الظالمين والمظلومين.

هدف الشيطان على لسان البطل هو جعل دائرة الدم والسواد تكتمل، فالظالم يموت بظلم أكبر، أما المظلوم فهو حينما ينسى ربه ولا يتوكل عليه، ويعتقد أنه قادر على انتزاع حقه بنفسه، وأن إرادته هي التي تحركه وتحدد مصيره وليست إرادة الله، وأن النار التي بداخله عليها أن تحرق الكل بدون تمييز، حينها يستوي مع الذي ظلمه، ويقتل بنفس الغل ونفس الطريقة حينها يصبح ظالما.

اختار صناع العمل نهاية صادمة للعمل الذي حقق نسبة مشاهدة عالية جدا خلال موسم رمضان، للخروج عن النهايات التقليدية من جهة، ومن جهة أخرى لتكون الرسالة المراد تبليغها ذات وقع أكبر، والمتمثلة في كون اختراق الشيطان للإنسان لا يكون دائما من خلال الوسوسة لفعل أمر قبيح أو منهي عنه، بل إن  الشيطان أقوى من ذلك وقد يخترقه من باب الخير وتحقيق العدل أيضا، حيث يجعل الإنسان يبحث عن أي وسيلة كيف ما كانت لتحقيق ما يريد.

استطاع المسلسل منذ الحلقة الأولى شد المشاهدين له، وقد ذهب البعض إلى اعتبار أن العمل يتضمن اسقاطات سياسية من قبيل استغلال الدين للوصول إلى السلطة، وهناك من ربطه بأحداث معينة، ولكن يبقى العمل الفني لوحة للتأمل والقراءة من زوايا متعددة، فهذه الاسقاطات قد تنطبق على أي مجتمع كيف ما كان دون أن تكون هناك نية خالصة لمحاكاة هذا المجتمع بالذات.

وتجدر الإشارة إلى أن الممثل المصري يوسف الشريف هو من قام بدور البطولة، وهو صاحب الفكرة أيضا، وقد عرف عنه ميله في أعماله إلى الأفكار المثيرة والغامضة، وقد تمكن في السنوات الأخيرة من لفت الأنظار إليه بشكل قوي.


10‏/07‏/2017

البديهيات التي ننساها

العيب والحرام في حياتنا المستقبلة
(الجزء الأول)
البديهيات التي ننساها*

بقلم د. نوال السعداوي



هل يمكن أن يكون السلوك الأخلاقي لشخص ما سلوكا أخلاقيا حقا إذا أجبر على القيام به؟ إن الأساس في الأخلاق لكي تكون أخلاقا أن يقدم عليها الإنسان طواعية واختيارا وليس كرها واجبارا.

ومن هنا التناقض الصارخ الذي سقع فيه الداعون إلى سن قوانين أخلاقية مثل قانون العيب وقانون الحرام، وغير ذلك من القوانين التي تحاول بعض الأنظمة والحكومات فرضها على الناس.
إن فرض القيم الأخلاقية بالقوة والقانون والبوليس ينحدر بالإنسان إلى حال أقل، ومرحلة متأخرة من البشرية حيث تكون هناك سلطة بوليسية خارج الإنسان تفرض عليه سلوكياته وأخلاقه. ومن المعروف أن الإنسان لا يمكن أن يكون مسؤولا عن فعل معين إذا كان قد أجبر على القيام بهذا الفعل. فالمسؤولية تنبع أساسا من حرية الاختيار، والإنسان الذي لا يختار إنسان غير مسؤول.

إلا أن هذه الحقيقة البديهية الأولى تغيب عن بال الكثيرين من الناس، وعلى الأخص هؤلاء الذين تخلوا منذ طفولتهم عن عادة التفكير في الظواهر والتناقضات التي تحيط بهم. لا أبالغ إذا قلت أنني أتعلم من الأسئلة والمناقشات التي تدور بين الأطفال أكثر مما أتعلمه من تلك التي تدور بين الكبار. لكن المشكلة أن أسئلة الأطفال تضيع مع الزمن، ويكف الطفل عنها بعد فترة قصيرة إما خوفا، وإما يأسا من الحصول على جواب.

أذكر أنني وأنا طفلة كنت جالسة أستمع إلى أبي وهو يشرح لي أحد دروس الدين، وكيف أن حياة كل إنسان قد كتبت عليه قبل أن يولد حسب مشئية الله. وإذا بي أسأل أبي هذا السؤال: ولماذا يحاسب الله الإنسان ويعاقبه ويحرقه في النار إذا كان الله هو الذي رسم له حياته قبل أن يولد؟
معظم الأطفال يسألون هذا السؤال، ومعظمهم أيضا يكفون عن هذا السؤال بعد أن يكبروا ويدركوا أن هناك أسئلة بغير جواب خاصة فيما يتعلق بحكمة الإله، هذه الحكمة التي كثيرا ما يعجز عن فهمها العقل البشري.

"عجز العقل البشري"، هذه هي البالوعة التي تسقط فيها كل الأسئلة الهامة، وتسقط معها البديهيات في الحياة. ويتعود الإنسان ألا يسأل، وإنما يتقبل ما يقدم له من أفكار أو قيم أو نظم دون مناقشة، فقد استقرت في أعماقه فكرة عجز العقل البشري، والذي أصبح عجزا ليس في مواجهة الإله الواحد القهار فحسب، وإنما أصبح عجزا في مواجهة أي حاكم واحد قهار، وأي أب واحد قهار وأي سلطة قهارة.

لو أننا درسنا قليلا تاريخ الإنسان، ولو أننا عدنا إلى التوراة والانجيل لوجدنا صورة الإله الطاغية المأخوذة عن صورة الملك الطاغية في عهود الفراعنة المصريين وملوك الفرس الطغاة، هذه الصورة التي لا زال يتغنى بها المسيحيون وهم يصلون قارئين آيات الانجيل هاتفين: "الرحمة، يا أيها اللورد، يا ملك الملوك ولورد اللوردات". هذه الكلمات هي نفسها التي استخدمت في بلاط الملوك والحكام. وكان الناس يركعون للملك أو الحاكم كما يركعون للإله، ويجلس الملك على العرش وظهره إلى الحائط يحوطه رجال الحاشية على شكل نصف دائرة، وهو الشكل التقليدي للمرحاب داخل الكنيسة حتى عهد قريب. إلا أن هذا الشكل تغير الآن في العالم الغربي بعد انكماش دور الكنيسة وانتشار الأفكار والفلسفات المعارضة لفكرة السلطة الإلهية الواحدة القابعة في السماء، وتأثر فلاسفة الغرب بالفلسفات الهندوكية والبوذية التي انتشرت في السنين الأخيرة في أوروبا وأمريكا، وأصبح الفلاسفة الجدد يقولون أن الله داخل الإنسان وليس خارجه.

وانعكست هذه التيارات الفكرية على شكل المحراب داخل الكنيسة، حتى الكنيسة الكاثوليكية وهي الأكثر محافظة، قد غيرت من شكل محرابها بحيث لم يعد الإله المسيح يجلس وظهره إلى الحائط وإنما أصبح يجلس في "الوسط" ومن حوله حشود المصلين، وتعبيرا عن أن ممكلة السماء أصبحت داخل الإنسان.

وكانت مثل هذه الأفكار من العوامل التي ساعدت على تغيير شكل الأنظمة السياسية وانظمة الحكم في العهود السابقة، وكيف أصبح نظام الملك الواحد الطاغي يختفي بالتدرج وتحل الأنظمة الجمهورية بدلا من الأنظمة الملكية وتنتشر مفاهيم الديمقراطية بدلا من الدكتاتورية.

وقد نبعت هذه المفاهيم عن الديمقراطية في العالم الغربي إبان القرنين الثالث عشر والرابع عشر من الضغوط الاقتصادية الشديدة التي دفعت الرجال والنساء من العبيد والأجراء إلى الثورة للتحرر من قهر السلطة الواحدة القوية التي تزهق أرواحهم وأجسادهم.

ومن هنا أيضا نبعت الفلسفة الصوفية في أوروبا الغربية، فهي فلسفة تنشد الديمقراطية، لأنها تعني اكتشاف ما سمي " بالنور الداخلي" داخل قلوب الناس جميعا، أو "نور الله" الذي ليس في السماء فحسب ولكنه داخل كل إنسان سواء كان أجيرا أو اقطاعيا، حاكما أو محكوما.

هذا هو المفهوم الخطير الذي هدد وتحدى سلطة الدولة والحقوق المقدسة للملوك والاقطاعيين. إنه مفهوم يكشف عن سلطة أخرى أو قوة أخرى داخل كل إنسان، هي قوة الله أو الضمير داخل كل واحد من البشر، وهو يؤكد أن كل الناس متساون في ضوء هذا النور الإلهي أو النطفة الإلهية التي يمتلكها العبد الفقير بمثل ما يمتلكها ملك الملوك أو الاقطاعي الكبير. وكان الملوك والاقطاعيون هم وحدهم الذين يدعون صلتهم بالإله ويقولون أن إله السماء قد أناب عنه الاقطاعي أو الملك ليكون الإله فوق الأرض.

لكن هذه الفلسفات الجديدة شجعت الناس العاديين على منافسة الملوك والحكام في حقهم في الإله، وسقطت فكرة الحاكم الواحد في السماء أو فوق الأرض، وانتشرت فكرة تعدد الإلهة، وتعددت الآراء وبدأت مفاهيم الديمقراطية تشق طريقها وتغير من أنظمة الحكم لنصبح أنطمة جمهورية ديمقراطية.

وكان من الطبيعي لهذه الأنظمة الديمقراطية أن تتناقض مع المفاهيم الأساسية للأديان أن تتغير وتتطور. وقد تم ذلك في معظم البلاد الصناعية المتقدمة في الغرب أو في البلاد الاشتراكية المتقدمة صناعيا.

أما في البلاد التي لم تتقدم صناعيا بالدرجة الكافية وظلت الأغلبية الساحقة من شعوبها أسيرة الجهل والفقر والاستغلال فقد انتشرت بها الأنظمة الدكتاتورية وتركزت السلطة في يد فرد واحد بمثل ما تتركز السلطة الإلهية في يد إله واحد.

وقد يحدث أحيانا في بعض هذه البلاد المتخلفة أن تغير نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري ديمقراطي، إلا أن الديمقراطية تظل جمهورية ديمقراطية لكنها في الحقيقة ليست إلا دكتاتورية ملكية. فقد تعود الناس الاستعباد والخضوع سواء في مواجهة قوة عليا في السماء أو قوة عليا فوق الأرض.



*المصدر: جزء مقتطف من مقال للكاتبة نوال السعداوي، بعنوان العيب والحرام في حياتنا المستقبلة، مجلة دراسات عربية، العدد 3، ص 3-4-5. يناير 1980.


20‏/06‏/2017

دوافع وتجليات السلوك الاستهلاكي خلال شهر رمضان

دوافع وتجليات السلوك الاستهلاكي خلال شهر رمضان
بقلم عمر الايبروكي*


         الإفراط في الاستهلاك خلال شهر رمضان  سلوك اجتماعي أكثر منه ديني تتحكم فيه قيم التحديث،والتحولات التي عرفتها المجتمعات الإسلامية،بحيث يقبل الناس على المواد الغذائية بنوع من الشره،وبطرق مبالغ فيها مقارنة مع باقي الشهور الأخرى. نحن هنا أمام مجتمعات تجاوزت الواجبات الدينية نحو السلوك الاستهلاكي الفر داني الذي شجعته النماذج الرأسمالية التي تروج للسلع والمنتوجات،وأصبح الفرد المسلم مثل غيره مكبلا بمجموعة من السلوكات الجديدة التي تروم جعله آلة استهلاكية،غايتها البيع والربح فقط.ويمكن الوقوف عند أسباب ومظاهر هذه السلوكات:                                                                            

     من العوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة الرمضانية، الدوافع العامة التي ترتبط بتحولات المجتمعات الإسلامية، وتأثرها بالتحولات العالمية اقتصاديا وسياسيا لأنها انفتحت على الرغم منها،في إطار ظاهرة العولمة التي وحدت الأنماط المعيشية ولو شكليا ووضعت هذه المجتمعات تحت رحمة الشركات الإنتاجية العالمية التي انتهكت الحدود، واخترقت الثقافات لتحول الإنسان إلى كائن استهلاكي. وارتباطا بهذا لعبت وسائل الإعلام دورا أساسيا في انتشار هذه السلوكات، وكان للإشهار تأثيره الشديد لأنه يخاطب العقل الباطن في الإنسان الجائع.وأخذت الفضائيات على عاتقها نشر أشكال الطبخ، وأنواع الأطباق و تعميمها وعولمتها عبر برامج تخاطب الدوافع اللاشعورية الدفينة غايتها الإشباع الغريزي والالتهام والشره.      
                                                        
    والى حدود العقود الأخيرة كانت الوجبات الغذائية لدى المغاربة متشابهة في شهر رمضان، ومع السنين الأخيرة عرفت الأسر نوعا من التفاوت وتمايزت الموائد، وتنوعت أشكالها وألوانها. ولم تعد الغاية هي الصيام والإطعام، بل الاستهلاك الوفير، وكأننا نعيش، مرحلة الانتقام والتعويض عن فترات الندرة حينما كانت المواد قليلة كما وكيفا، والوجبات متشابهة، والاستهلاك حفيفا.   
                 
 المفارقة العميقة هي اتساع الهوة بين فئات المستهلكين، بين الأسر التي تعيش على البذخ، وأخرى أكثر فقرا لا تكاد تجد قوت يومها،وهذا في حد ذاته مخالف لتعاليم الإسلام. نحن هنا أمام سلوكات اجتماعية جديدة تختفي وراء فريضة دينية، وتلبي حاجات لاشعورية ساهمت  ثقافة الاستهلاك في إذكائها ، وامتزجت مختلف الثقافات والحضارات على مستوى فنون الطبخ كنتيجة للعولمة وانفتاح المجتمعات على بعضها البعض.

-        نحن أمام ظاهرة التخفي وراء التدين والاحتفاء برمضان، من اجل الظهور بمظهر الإشباع الغريزي والنهم والتبذير كشكل من الارتقاء الاجتماعي.        
                                                      
   هذه السلوكات في جوهرها تتناقض مع دلالات شهر الصيام التي - تهدف إلى الإمساك، والرحمة، وإطعام ذوي الحاجة. ما نلاحظه هو الاستهلاك المفرط، والتنافس في التهام أنواع الطعام والشراب، وفي إعداد الأطباق، وتعويض ساعات الصيام بالتخمة ليلا.            

*دكتور وأستاذ التعليم العالي تخصص علم الاجتماع



ملحوظة: المقال هو عبارة عن تصريح للكاتب في إطار موضوع حول الاستهلاك في شهر رمضان، سنة  2009

17‏/06‏/2017

الانتفاض بالمغرب: محاولة تنظير:فصل المقال فيما بين الأمس واليوم من اتصال

الانتفاض بالمغرب: محاولة تنظير
فصل المقال فيما بين الأمس واليوم من اتصال
بقلم د.جمال فزة

بين الانتفاض بالأمس والانتفاض اليوم، يعتري الجميع شعور بأن شيئا ما قد تبدل. لقد حدث شيء ما بسرعة.. بسرعة كبيرة.. حدث ذلك دون أن يتح لنا فيه وقت لندرك حقيقة ما يجري.. دهمتنا الأحداث بغتة، ونحن على خصام مع تاريخنا، حتى القريب منه، وكأننا به أمام طفل بالكاد فطم لكن يجهل تماما مصدر معاناته، ولماذا تعرض لكل هذا العسف!
الكل يردد بأن الانتفاضات التي يشهدها المغرب اليوم تختلف عن الانتفاضات التي شهدها بالأمس. لكن عندما نقف مليا عند ما كتب وما تم التصريح به في هذا الشأن، لا نكاد نلمس فرقا جوهريا يسمح لنا بتفسير ما يجري من حولنا. وتجدر الإشارة إلى أننا، مثلهم، نؤكد أن التوفق في تحديد الفرق بين الانتفاض بالأمس والانتفاض اليوم يعد مدخلا مهما لفهم ما يجري، لكننا مع ذلك لا نسلك مسلكهم في البحث والتقصي، ونختلف معهم في المنطلقات والنتائج.
لقد اعتقد الجميع أن استيعاب الفرق يتوقف على الالتزام بالموضوعية والحياد. واعتبروا أن الموضوعية مرادف للوصف، وأن التمييز في الانتفاض بين الأمس واليوم رهين بجرد خصائص الانتفاض القابلة للملاحظة، قبل أن يتم الفصل فيها بين المتشابه والمختلف. لقد كانت منهجيتهم امبريقية ساذجة تعتقد أن معطيات الواقع الخام تتكلم بذاتها، وأنها لا تحتاج منا سوى أن نصنفها بحسب خصائصها العينية، فيظهر الفرق وينتهي الأمر. على هذا الأساس لم تتعد نتائجهم رصد بعض الفروق في خصائص الاحتجاجات من قبيل المكان الذي اندلعت فيه (بوادي – حواضر – مراكز كبرى...) أو الزمان الذي استغرقته (احتجاجات ذات نفس قصير – احتجاجات ذات نفس طويل) أو النوع (مكانة المرأة في الاحتجاجات) أو السن (مكانة الشباب في الاحتجاجات). لكن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء استثمار هذه التوصيفات في بناء نماذج تحليل تعيننا على فهم ما يجري.
لقد نسوا أو تناسوا.. جهلوا أو تجاهلوا أن المفاهيم في العلوم الانسانية عموما كيانات أو كنهيات نسقية، لا تحمل معناها في ذاتها أو في بعض الخصائص الخارجية التي يمكن جردها، بل فيما تقيمه من علاقات مع مفاهيم أخرى مشكلة أنساقا تفسيرية أو نماذج تحليل.
لنحاول إذن أن نفهم كيف كان يشتغل النسق السياسي بالأمس، ما هي عناصره؟ وما هو المعنى الذي كانت تتخذه الانتفاضات داخل هذا النسق؟ وماذا حدث للنسق السياسي اليوم؟
كل نسق مهما كان، هو حصيلة توازن قوى متنافسة، مصالحها متعارضة، لكن في نفس الوقت يتوقف تحقيق أهدافها على التعاون فيما بينها؛ وإلا في غياب هذا الشرط الثاني، تجد نفسها تمارس الصراع خارج النسق، وفق شروط أخرى مفتوحة، أكيد، لكن غير مضمونة العواقب. لذلك يطلق على هذا النوع من القوى التي تختار أن تمارس الصراع من خارج النسق نعتي "المغامرة" و"الصبيانية"، سيما من قبل القوى التي تتقاسم معها الشعارات العامة، لكن اختارت ممارسة الصراع من داخل النسق؛ نظرا لوجود اختلاف في التقدير السياسي للمرحلة والخط السياسي الذي من المفروض أن يؤطر الممارسة. هكذا نميز بين النسق وبيئته القريبة التي تحتضن ما يطلق عليها ب "القوى المغامرة" والتي سنسميها في هذا المقال بقوى "المحيط" في مقابل قوى "المركز" التي تشمل الأطراف التي تقع داخل النسق وتقبل بشروط اللعبة. لكن، هل القوى التي تعمل خارج النسق السياسي (قوى المحيط) لا علاقة لها بالنسق ولا تكترث لعمله؟
بالعكس تماما؛ إن الاشتغال الجيد للنسق يستلزم وجود قوى خارجه. أو قل للدقة، كل طرف داخل النسق يجب أن يكون له طرف "محيطي" يمثله خارج النسق (صورته بلغة الرياضيات). هكذا تنتظم القوى بين الداخل والخارج بما يفيد الحفاظ على توازن النسق؛ وذلك وفق اشتغال قوتين إحداهما انجذابية (centripète) تعزز تماسك عناصر النسق وتعاضدها،  والأخرى انتباذية centrifuge)) تفكك النسق وتضعف قوى تماسكه.
تزداد شدة القوة الانجذابية عندما تتوافق انتظارات الفاعلين داخل النسق(استراتيجياتهم) مع الفرص التي تسمح بها قواعد اللعب داخل النسق. في هذه الحالة تضعف شدة القوة الانتباذية وتنحسر مشاريع قوى "المحيط". وبالمقابل عندما تتناقض استراتيجيات الفاعلين داخل النسق مع الفرص التي تتيحها قواعد اللعب، يصير الانتماء إلى النسق غير ذي جدوى، فتتعزز القوة الانتباذية ويصاب النسق بعطل وباختلال توازنه. في هذه الحالة تستفيد "قوى المحيط" من انحسار مشروعية قوى المركز، وفتور تأثيرها، فتنجح في اكتساح المواقع التقليدية لهذه الأخيرة.
أمام المنافسة الشديدة التي تواجه "قوى المركز" من طرف "قوى المحيط"، والتي لا ينجم عنها اختلال بين الداخل والخارج فحسب، بل اختلال داخل النسق نفسه؛ حيث تضعف القوة التفاوضية لقوى المركز؛ طالما أن هذه القوة تتوقف على قدرة كل فاعل من داخل النسق على تهذيب صورته المحيطية وقس جناحيها.
عندما يتراجع تأثير قوى المركز، وتشرع قوى المحيط في اكتساح المواقع الاجتماعية والجماهيرية، وتتراجع القدرة التفاوضية لقوى المركز من داخل النسق، تحتاج اللعبة برمتها إلى نفس جديد. تحتاج اللعبة السياسية إلى أداة تعيد لها توازنها، عبر تمكين قوى المركز من حماية مواقعها التقليدية في مواجهة قوى المحيط، وتجديد مشروعيتها الشعبية وفي نفس الوقت تثمين قدرتها التفاوضية داخل النسق.
كان النسق السياسي القديم عبارة عن توازن أو تعاقد طبقي pacte de classes أساسه الإيديولوجي النزعة الوطنية le nationalisme والبراديغم العام الذي يفسر اشتغاله هو المنهجية الوطنية le nationalisme méthodologique. في هذا الإطار، كانت التعارضات بين القوى الحية في البلاد، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، تعبر عن نفسها من خلال مصفوفة اللعبة السياسية ومحيطها القريب، وما تسمح به قواعد اللعب. لم تكن التناقضات تعبر عن ذاتها كما هي. لم تكن مفتوحة على طبيعتها، بل مغلقة بشروط التحويل التي تفرضها اللعبة السياسية. لقد كانت اللعبة السياسية تعيد تعريف التناقضات مهما كانت طبيعتها، فتخضعها لمنطق التوازن الذي يشرط وجودها.
بهذا المعنى يمكن تعريف النسق السياسي المغربي، بالأمس القريب، باعتباره لعبة سياسية تسير بطبيعتها نحو الاحتقان؛ أي احتداد التناقض بين المصالح وتلاشي جدوى التعاون، ثم يتم إعادة التوازن للنسق بعد انتفاضة تدكر الجميع بضرورة التعاون، وبأن المستفيد إذا ما تنكر الجميع لقواعد اللعب يقع خارج الوطن. هكذا تعيد الانتفاضة الأطراف إلى مائدة المفاوضات لتتجدد الأدوار ويستعاد التوازن.
والآن ماذا يجري؟
أول شرخ أحدثته العولمة هو أن العلاقة بين الدولة والوطن لم تعد بديهية. إن العولمة قد أنهت حكاية المنهجية الوطنية. وإذا كان الوعاء العام قد تغير، فبالتأكيد سوف يتغير شكل محتوياته؛ ومنه المعنى الذي تتخذه الانتفاضة اليوم.
الجديد اليوم الذي يستحق الانتباه إليه هو أن التناقضات بين القوى الحية في البلاد لم تعد تمر عبر التحويل السياسي التقليدي؛ أي أنها لم تعد تقبل بإعادة تعريفها من خلال قواعد العقد السياسي، بل أصبحت تعبر عن ذاتها من خلال طبيعتها. ولمزيد من التوضيح، أضرب مثلا "المجتمعات البدائية" التي كانت طبيعة الصراعات بين قسماتها مادية، تدور حول المراعي والمياه، أو قل بصفة عامة حول الموارد الطبيعية. لكن المجتمع برمته كان ينتظم حول نسق القرابة، والسياسة كانت تعني أن نحول مضمون الصراعات من الإيكولوجيا إلى القرابة. لقد كانت الصراعات لا تتخذ معناها إلا داخل نظام القرابة وانطلاقا من قواعد اتصال وانفصال الأسر والعشائر والقبائل.
قس على ذلك النسق السياسي المغربي. لقد أصبحت التناقضات الاقتصادية والثقافية والسياسية منفصلة عن قواعد اللعبة ومستقلة عنها. وأصبحت التعبيرات الاقتصادية (المقاولات) تحضر كطرف مباشر في اللعب، لا تحتاج أن تمر عبر تحويل سياسي. وكذلك التعبيرات الثقافية والدينية والهوياتية. لقد أصبحت التعارضات تحتفظ بطبيعتها. وفي هذا تحول عميق لمفهوم السياسة. إن السياسة لا تقوم لها قائمة بدون أن نتمكن من إعادة تعريف التعارضات وتحويلها؛ إذ بهذا التحويل نعطيها معنى جديدا، ونتمكن من إيجاد حل لها؛ لأنها تكون، بفضل هذا التحويل، قد اتخذت شكلا قابلا للمعالجة. أما وأن الأمور أصبحت تحضر كما هي، فإن الصراع والخصام سيكون مفتوحا. لا يجب أن ننسى بأنه في كثير من "المجتمعات البدائية" لم يكن من الممكن تمثيل المسرحية دون أن يرتدي الممثلون الأقنعة (persona). ولا يجب أن ننسى أهمية الدفوعات الشكلية أثناء المحاكمة؛ فلا مناقشة ولا مرافعة دون أن يتمكن المحامي والقاضي من الاتفاق على التحويل الشكلي للوقائع إلى نصوص. أما إذا استحضرنا أزمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، فلا يمكن أن نستبعد فكرة أساسية في تفسير استدامة الأزمة؛ تتعلق هذه الفكرة بطبيعة التمثيلية والحضور داخل الحركة الطلابية، والتي تقوم على أساس نظام اللوائح. إن هذا النظام يعني أن الأطراف المتنازعة تتنافس وجها لوجه باعتبارها فصائل لها أهداف واستراتيجيات متعارضة.  
اليوم بعدما أصبحت الأطراف المشكلة للنسق السياسي الجديد مستقلة عن أي تحويل سياسي، فإن الانتفاظ لم يعد أداة سياسية لخدمة النسق، وإنما صار فعلا اجتماعيا مستقلا، يعبر عن قوة حقيقية أولية (élémentaire). وإذن، فإن النسق لم يعد ذا طبيعة سياسية بحتة، ولم تعد الأحزاب قادرة على صهر الرهانات الاقتصادية والثقافية في مشروع سياسي مندمج يتدافع، داخل النسق مع مشاريع منافسة. هكذا فإن النسق يتكون اليوم من قوى اقتصادية وسياسية واجتماعية متناقضة نختصرها في ثلاثة أقطاب كبرى: الدولة والسوق والمجتمع. يمكن أن نمثل النسق المغربي بالخطاطة التي وضعها "جان أفشان" مع بعض التعديلات الطفيفة. تضع هذه الخطاطة قوى المركز داخل الدائرة بينما تقدف بانحرافاتها (قوى المحيط) خارج الدائرة.
 

    هذه هي عناصر النسق. في قلب الدائرة مثلث متساوي الأضلاع يتكون من ثلاث قيم أساسية تمنح للنسق روحه الخاصة (son ethos). الدولة أصبحت طرفا في اللعبة ولم تعد تحتكر مفاتيحها؛ لكن هذا لا يعني أنها لم تعد تتحكم في اللعبة، بل بالعكس لقد أصبحت اليوم مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى ممارسة دورها وإقناع السوق والمجتمع بجدواها. مشروعيتها تكمن في حماية قيمة المساواة وخدمة المواطنين باعتبارهم مرتفقين، يتمتعون بالحق في الخدمة الإدارية على قدم المساواة. وكل انحراف عن هذه الغاية وتعظيم لدورها يدفعها إلى السقوط في البيروقراطية، التي يتحول بها المنصب الإداري إلى غاية في ذاته. في هذه الحالة تكون الانتفاضة أداة ردع من طرف المجتمع، الذي يكون قد اكتوى بنيران السلطوية والفساد البيروقراطي. وقد تتحالف قوى السوق مع المجتمع، باحثة عن ميزان قوى جديد يحد من احتكار الدولة للمبادرة الاقتصادية.
مبدأ السوق هو الحرية. لكن عندما تنتشر الهشاشة بفعل تراجع سوق الشغل (غياب الحماية والتأمين) وتلاشي الرابطة الاجتماعية (لم يعد الشغل مصدر لإنتاج هوية اجتماعية) تقودنا قيم السوق إلى التوحش والافتراس. في هذه الحالة تكون الانتفاضة أداة لمواجهة الاستلاب؛ لذلك تتسربل في هذه الحالة بشعارات إنسانية، وبتثمين الأعراف والتقاليد والتراث؛ أي المعقولية التاريخية التي تتمحور حول العدالة الاجتماعية في مواجهة العقلانية الاقتصادية التي تتمحور حول الفعالية. قد تدعم عناصر من الدولة الانتفاضة، خصوصا المثقفين والفنانين وممثلي الطبقة الوسطى عموما.
المجتمع لا يكون بدون تضامن؛ لذلك عندما تتفكك سيرورات التنشئة الاجتماعية، وتكف عن تأدية وظائفها يصاب المجتمع بالشلل. لكن بالمقابل قد يؤدي الإفراط في قيمة التضامن إلى إنتاج ذهنية القطيع والانغلاق الهوياتي الذي يقف في وجه كل إبداع فردي أو رغبة في الاجتهاد. في هذه الحالة تتفكك الانتفاضة وتكف عن حشد الأنصار، فتتحول إلى جماعات متناحرة تقفل على عنف مفتوح. تذكي الدولة في تحالفها مع قوى السوق الخلافات بين الجماعات الاولية لتبرهن على أن المجتمع لا يرقى بذاته إلى تنظيم نفسه بنفسه، وأن شعاراته يوتوبيا جميلة لكن غير واقعية. في هذه الحالة تنجح الدولة في إثارة انتفاضات مضادة من أجل استعادة الأمن بعدما يكون الشعور بعدم الأمان (le sentiment d’insécurité) قد تعاظم بين الناس.



16‏/06‏/2017

المغرب الأقصى بلد الاستثناء: رأي حول موقف المغرب من أزمة الخليج

المغرب الأقصى بلد الاستثناء
رأي حول موقف المغرب من أزمة الخليج

بقلم إدريس الجنداري*


في علاقة بموقف المغرب من الأزمة الخليجية، و ما تلاه من ردود فعل اتخذت لحد الآن طابعا إعلاميا، أجد الفرصة مواتية لتوضيح مجموعة من النقط التي ظلت غامضة في مساري البحثي، و خصوصا ما تعلق منها بالبعد الحضاري العربي الإسلامي للمغرب.

كنت دائما أحمل وعيا شقيا، في علاقة بعروبة المغرب، فمن جهة كنت على تمام الوعي بأن المغربي/الإفريقي لن يكون يوما سعوديا/آسيويا، حتى و لو وظفنا أعتى الأسلحة الإيديولوجية، فللمغرب خصوصيته الوطنية التي ميزته عن المشرق طوال قرون. و من جهة أخرى، لم أكن قادرا على تصور أي وجود للمغرب خارج التصور الحضاري العربي الإسلامي. فقبل انتماء المغرب إلى الحضارة العربية الإسلامية لم يكن شيئا يذكر، كان مزرعة كبرى لروما، و لا وثائق مادية تؤكد أنه كان للمغرب وجود حضاري سابق عن الحضارة العربية الإسلامية.

كيف يمكن الخروج من هذا الوعي الشقي/ المأزق، ذلك كان الإشكال الذي أرقني مرارا.
بعد مسار بحثي طويل و شاق، اهتديت إلى شبه حل، أظن أنه يخفف من الطابع الإشكالي. 

 المغرب، تاربخيا، ظل يجمع بين اتجاهين يبدوان، للوهلة الأولى، متناقضين. من جهة، استمر ارتباط المغرب بالأمة العربية الإسلامية، طوال قرون، و لم يتزحزح يوما عن هذا الانتماء تحت أي داع أو ضغط. و من جهة أخرى، ظل المغرب محافظا على استقلاله عن مركز الخلافة في الشرق، و ظل محافظا على سيادته الوطنية كمغرب أقصى بعاصمته التاريخبة مراكش، و لم يتعد ارتباطه بالخلافة الإسلامية في الشرق حدود الاعتراف الرمزي حفاظا على وحدة الأمة العربية الإسلامية.

ما مدى صلاحية هذه المنهجية راهنا، هذا هو السؤال الأجدى . 
أظن أن المغرب ظل محافظا على هذه المنهجية، سواء خلال تاريخه الحديث أو خلال تاريخه المعاصر. 

 حديثا، ظل المغرب رافضا الانضواء تحت أي تصور خلافي دامج يهدد خصوصيته، و لذلك ظل المغرب الأقصى الدولة الاستثناء التي لم تدخل تحت لواء الإمبراطورية العثمانية، و لما نجح التيار الوهابي في اكتساح الجزيرة العربية، خلال عهد المولى سليمان، ظل المغرب مقاوما للاختراق الوهابي، نخبا سياسية و ثقافية و شعبا، رغم ميل السلطان المغربي إلى الاتجاه الوهابي. 


 معاصرا، ظل المغرب محافظا على خصوصيته في مواجهة التيارات الإيديولوجية التي وظفت مكوني العروبة و الإسلام لتأسيس مشاريعها السياسية. فالمغرب لم يعبر عن أي ميل نحو الاتجاه القومي/البعثي، و ظل يعتبر أن العروبة حضارة و ليست إيديولوجية للاستثمار السياسي. و نفس الأمر حدث مع الاتجاه الإسلامي الإخواني و الشيعي، فالمغرب لم يكن يوما تربة خصبة لهذا التيار الإيديولوجي، لأن الإسلام في تصور المغاربة أكبر من أن يكون مشروعا إيديولوجيا ظرفيا عابرا، إنه مشروع حضاري شامل.

 اليوم، على وقع الصدامات التي يعيش على إيقاعها العالم العربي الإسلامي، ما أحوجنا إلى استحضار و توظيف هذا الرصيد الحضاري العظيم، الذي نجح، لقرون، في حل معادلة معقدة و صعبة الحل: أن نحافظ على انتمائنا للأمة العربية الإسلامية، و هذا حق دافع عنه الأجداد و ليس منحة من أحد. و في نفس الآن، أن نحافظ على استقلاليتنا عن المرجع المشرقي بجميع تياراته الإيديولوجية و مذاهبه الدينية، و مكوناته العرقية




*كاتب وأكاديمي مغربي، حاصل على الدكتوراه تخصص سوسيولوجيا الأدب من جامعة محمد الخامس- الرباط


جميع الحقوق محفوظة لــ مقالات نافعة 2015 ©