31‏/05‏/2017

الالتزام بتوصيات النيو-ليبرالية سوف يجر إلى ما هو أسوأ من حراك الريف

الالتزام بتوصيات النيو-ليبرالية سوف يجر إلى ما هو أسوأ من حراك الريف
بقلم د.جمال فزة*

نزولا عند رغبة صديق عزيز طلب مني أن أدلي بدلوي في موضوع حراك الريف، قررت أن أخط هذه الأسطر؛ دون أن يعني هذا، بأي حال، أنني لم أكن مبال بالموضوع إلى حين توصلي بالطلب من قبل صديقي العزيز، بل إني اعتبرت ما حدث في الريف نتيجة منطقية لما كنت قد كتبته في مقالات سابقة؛ وأخص بالذكر مقال خصصته للرد على منار السليمي، نشرته على صفحتي بالفايس بوك تحت عنوان: ردا على مقال: "المغاربة في الجيل الثالث من الاحتجاج" – "المثقف المغربي: في غياب التماسك المنطقي وضعف الحجاج"، ومقال: "التصوف والحداثة: تبيان العلاقة ونقد الأطراف" ثم مقال: "العنف الحضري والتفكك الاجتماعي: الشباب المغربي من استشراف التغيير إلى استعجال المتعة".

تمتح هذه المقالات من مرجعية واحدة: محاولة رصد التحولات العامة في عصر العولمة، وما يترتب عنها من تبدل عميق لطبيعة الصراع المهيكل للمجتمعات، وبروز فاعلين جدد يفرضون علينا إعادة تعريف الديمقراطية على أسس جديدة. يتعلق الأمر بالحركات الاجتماعية باعتبارها فاعلا محليا يطالب بإعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع وإعادة تجديد التعاقد الاجتماعي، لكن تحت ضغط أسئلة كونية ترتبط بقلق حضاري وإنساني عام، يرتبط بانحسار المشروع الحداثي واختلال المنظومة العقلية التي ربطت على نحو وثيق وطبيعي بين مفاهيم التقدم والتقنية والسعادة والرفاه الاجتماعي.

لن أعيد ما كتبته في المقالات المذكورة أعلاه، لكنني لن أتزحزح قيد أنملة عن المرجعية التي غذتها جميعها. والبداية رأيي في موضوع راج في الإعلام المكتوب مؤخرا؛ فقد اتفق عدد من الإعلاميين والمحللين على أن حراك الريف يجد تفسيره في ضعف الوساطة بين الدولة والمجتمع، أو قل غيابها التام. ويقصدون بالوساطة الأحزاب السياسية. إن هذا الرأي في نظري صحيح في منطوقه خاطئ في مضمونه؛ فالمغاربة كفوا منذ زمن بعيد عن الثقة في الأحزاب، واليوم هم يائسون تماما لأنهم فقدوا الثقة حتى في المجتمع المدني، الذي كان من المفروض أن يلعب دور أداة للدفاع الذاتي يعبر بها المجتمع عن معقوليته التاريخية وهويته في مواجهة عقلانية السوق وسلطان المال. إن المغاربة يعرفون حق المعرفة أن الدولة فاسدة والإدارة فاسدة والأحزاب فاسدة، لكنهم اليوم أدركوا أن سلطان الفساد كان أقوى مما تخيلوا؛ حيث طال أولئك الذين من المفروض أن يحاربوه لأنهم من أهل الدار ! هل يمكن أن تتصوروا ماذا يمكن أن يحدث لفتاة تتعرض لاغتصاب من قبل أقرب أقاربها؟!!

إن المشكلة الكبرى التي تعاني منها عقلية الحكم في المغرب هي أنها تعتقد بأن نجاح الدولة يكمن في إسكات صوت المعارضة الحقيقية وتدجينها وتجفيف كل منابعها، وأساسها المجتمع المدني، غير أن ما لا تفهمه أو تتجاهله هو أنها بفعلها ذلك إنما تلغي المجتمع ذاته. فالمجتمع الذي لا يتهيكل حول صراع وتمثيليات حقيقية لهذا الصراع مجتمع مفتوح على العنف؛ لأن الصراع يعني وجود بدائل كامنة، والمظلوم في إطار الصراع يشعر دائما بأنه لم يسحق بعد، وأنه بخوضه للصراع يساهم في بناء المستقبل. 

 
ما لا ينبغي أن ننساه في نظري، هو العدو الحقيقي لكل المجتمعات الإنسانية، والمغرب واحد منها، إنها النيو-ليبرالية. غير أننا عندما نتذكر ذلك ننسى أمرا آخر في غاية الأهمية؛ وهو أن النيو-ليبرالية ليست مشروعا اقتصاديا فحسب، وإنما مشروعا سياسيا كذلك. فبعض التحليلات تعتقد أننا نعيش آثارا موضوعية وحتمية للانتشار الاقتصادي للنيو-ليبرالية، وأن انعكاسات هذا الانتشار على حياة الشعوب لا تحتاج إلى أي برنامج سياسي أو تخطيط مسبق. بل إن كثيرا من التحليلات قد سوغت وبررت تحول الجمعيات إلى ما يشبه مقاولات يحكمها منطق التسويق، الذي يتمحور حول مبدأي الفعالية والنجاعة بدعوى تراجع الميزانية العمومية. وقد عملت هذه التحليلات على إظهار هذا التحول كما لو كان كارثة طبيعية يلزمنا التكيف معها.

 
لهؤلاء أوجه كلامي هذا: إن فصل مؤسسات المجتمع المدني عن تطلعات الناس والزج بها في حقل غريب عنها تماما هو حقل المقاولة ومنطق التسويق، وقد لعبت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هذه اللعبة في المغرب، هو تجسيد أمين وترجمة لبرنامج واع لذاته تم إعداده وصوغه بتأن من طرف مجموعة عالمية يتكون أعضاؤها من رجال أعمال وكبار أثرياء العالم ومفكرين مرموقين؛ يتعلق الأمر بمنظمة "مونت بيلران" (MONT-PELERIN) التي شهدت النور سنة 1945 من التاريخ الميلادي قبل أن يتصلب عودها ويتقوى خلال سنوات السبعينات من القرن الفائت. وتدافع هذه المنظمة التي تحيط اجتماعاتها ولقاءاتها بسرية كبيرة عن النزعة النقدية (MONETARISME) التي سيطلق عليها فيما بعد اسم النيو-ليبرالية.

وفي سنة 2010 –وهذا في غاية الأهمية- أعلن أعضاء في هذه المنظمة أنهم قد فازوا بالمعركة على المستوى الفكري، ولم يتبق لهم سوى المرور إلى الفعل. وليس من باب المصادفة أن تشهد سنة 2010 المصادقة على قانون حرية التمويل الخاص للحملات الانتخابية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما علق عليه تشومسكي حينئذ بأنه إفساح الطريق أمام الشركات الكبرى للتحكم في السياسة.

 يقدم هاييك، وهو أحد الآباء المؤسسين للنيو-ليبرالية، دليلا حاسما على أن النيو-ليبرالية ليست برنامجا اقتصاديا فحسب، بل مشروعا سياسيا كذلك حينما يدين بوضوح الطابع المفتوح للديمقراطية كما نعرفها ونمارسها حاليا. فهذا الطابع المفتوح للديمقراطية يشكل في نظر هاييك عبء على المؤسسة الحكومية. ولا يتردد هاييك في الإعلان عن أن الديمقراطية الخالصة يمكن أن تكون أسوأ من السلطوية.

 
قد يعتبر البعض أن إدانة هاييك للديمقراطية الخالصة أمر معزول، وأنه لا يحتمل كل هذا الحذر والتوجس من وجود برنامج سياسي يصالح بين الرأسمالية والسلطوية، ويحدث طلاقا بائنا بينها وبين الديمقراطية الخالصة كما نظر لها فلاسفة التنوير، والتي اعتمدتها الرأسمالية في طور صعودها رافعة ضد المجتمع القديم؛ حيث سادت السلطوية الدينية. 

لكن لماذا ننسى التاريخ؟ ألم تصدر لجنة ثلاثية سنة 19755 تقريرا موقعا من طرف كل من سامويل هنتنغتون وواتانوكي وسوسيولوجي التنظيمات ميشيل كروزيي يعلنون فيه بوضوح رغبتهم في الحد من الانتشار الديمقراطي على نطاق واسع؟ ألم تشهد هذه الفترة على تناسل بعض الأبحاث التي ألقت على عاتقها مهمة البرهنة على كونية وعالمية المشروع الرأسمالي، انطلاقا من قدرته على أن يتوافق حتى مع الأنظمة السلطوية!! 

 
يبدو أن البرنامج النيو-ليبرالي لا يتلخص، على خلاف ما نعتقد غالبا، في مجموعة من الإجراءات الاقتصادية، بل يؤلف على نحو وثيق بين سجلين كبيرين:
1- على المستوى السياسي، لا تهدف النيو-ليبرالية إلى إعادة تعريف دور الدولة فحسب، بل إنها تهدف إلى إعادة تعريف دور جميع المنظمات الشعبية، التي بمستطاعها أن تقاوم كل تقزيم للديمقراطية والحد من قوتها، من خلال استثمارها للفعل داخل الفضاء العمومي.
2- على المستوى الاقتصادي، تهدف النيو-ليبرالية إلى إقامة مجتمع السوق؛ أي اجتياح منطق السوق لجميع جوانب المجتمع؛ وذلك عن طريق التحويل المتزايد للأنشطة العمومية، التي لا تتوخى أي ربح إلى قطاعات ربحية يحكمها منطق التسويق. 

ماذا يعني هذا؟
 إن هذا يعني أن النيوليبرالية تدمر المجتمع وتقضي عليه نهائيا. والدولة في المغرب، عندما تنصاع إلى تعليمات المؤسسات المالية العالمية، وتتجاهل المطالب العميقة للشعب، والتي تتمحور حول العدالة الاجتماعية، إنما تسير، وبتعنت، في طريق مجهولة. أما استعانتها بالدين من أجل تحوير مسار الحراك ففيه مغامرة كبيرة جدا، سيما وقد جاءت هذه الاستعانة بعد انقلاب على مشروعية الدين الشعبي، على علاته، وهذا من شأنه أن يقود إلى ما لا تحمد عقباه.


*كاتب وأستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط.


ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مقالات نافعة 2015 ©