20‏/06‏/2017

دوافع وتجليات السلوك الاستهلاكي خلال شهر رمضان

دوافع وتجليات السلوك الاستهلاكي خلال شهر رمضان
بقلم عمر الايبروكي*


         الإفراط في الاستهلاك خلال شهر رمضان  سلوك اجتماعي أكثر منه ديني تتحكم فيه قيم التحديث،والتحولات التي عرفتها المجتمعات الإسلامية،بحيث يقبل الناس على المواد الغذائية بنوع من الشره،وبطرق مبالغ فيها مقارنة مع باقي الشهور الأخرى. نحن هنا أمام مجتمعات تجاوزت الواجبات الدينية نحو السلوك الاستهلاكي الفر داني الذي شجعته النماذج الرأسمالية التي تروج للسلع والمنتوجات،وأصبح الفرد المسلم مثل غيره مكبلا بمجموعة من السلوكات الجديدة التي تروم جعله آلة استهلاكية،غايتها البيع والربح فقط.ويمكن الوقوف عند أسباب ومظاهر هذه السلوكات:                                                                            

     من العوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة الرمضانية، الدوافع العامة التي ترتبط بتحولات المجتمعات الإسلامية، وتأثرها بالتحولات العالمية اقتصاديا وسياسيا لأنها انفتحت على الرغم منها،في إطار ظاهرة العولمة التي وحدت الأنماط المعيشية ولو شكليا ووضعت هذه المجتمعات تحت رحمة الشركات الإنتاجية العالمية التي انتهكت الحدود، واخترقت الثقافات لتحول الإنسان إلى كائن استهلاكي. وارتباطا بهذا لعبت وسائل الإعلام دورا أساسيا في انتشار هذه السلوكات، وكان للإشهار تأثيره الشديد لأنه يخاطب العقل الباطن في الإنسان الجائع.وأخذت الفضائيات على عاتقها نشر أشكال الطبخ، وأنواع الأطباق و تعميمها وعولمتها عبر برامج تخاطب الدوافع اللاشعورية الدفينة غايتها الإشباع الغريزي والالتهام والشره.      
                                                        
    والى حدود العقود الأخيرة كانت الوجبات الغذائية لدى المغاربة متشابهة في شهر رمضان، ومع السنين الأخيرة عرفت الأسر نوعا من التفاوت وتمايزت الموائد، وتنوعت أشكالها وألوانها. ولم تعد الغاية هي الصيام والإطعام، بل الاستهلاك الوفير، وكأننا نعيش، مرحلة الانتقام والتعويض عن فترات الندرة حينما كانت المواد قليلة كما وكيفا، والوجبات متشابهة، والاستهلاك حفيفا.   
                 
 المفارقة العميقة هي اتساع الهوة بين فئات المستهلكين، بين الأسر التي تعيش على البذخ، وأخرى أكثر فقرا لا تكاد تجد قوت يومها،وهذا في حد ذاته مخالف لتعاليم الإسلام. نحن هنا أمام سلوكات اجتماعية جديدة تختفي وراء فريضة دينية، وتلبي حاجات لاشعورية ساهمت  ثقافة الاستهلاك في إذكائها ، وامتزجت مختلف الثقافات والحضارات على مستوى فنون الطبخ كنتيجة للعولمة وانفتاح المجتمعات على بعضها البعض.

-        نحن أمام ظاهرة التخفي وراء التدين والاحتفاء برمضان، من اجل الظهور بمظهر الإشباع الغريزي والنهم والتبذير كشكل من الارتقاء الاجتماعي.        
                                                      
   هذه السلوكات في جوهرها تتناقض مع دلالات شهر الصيام التي - تهدف إلى الإمساك، والرحمة، وإطعام ذوي الحاجة. ما نلاحظه هو الاستهلاك المفرط، والتنافس في التهام أنواع الطعام والشراب، وفي إعداد الأطباق، وتعويض ساعات الصيام بالتخمة ليلا.            

*دكتور وأستاذ التعليم العالي تخصص علم الاجتماع



ملحوظة: المقال هو عبارة عن تصريح للكاتب في إطار موضوع حول الاستهلاك في شهر رمضان، سنة  2009

17‏/06‏/2017

الانتفاض بالمغرب: محاولة تنظير:فصل المقال فيما بين الأمس واليوم من اتصال

الانتفاض بالمغرب: محاولة تنظير
فصل المقال فيما بين الأمس واليوم من اتصال
بقلم د.جمال فزة

بين الانتفاض بالأمس والانتفاض اليوم، يعتري الجميع شعور بأن شيئا ما قد تبدل. لقد حدث شيء ما بسرعة.. بسرعة كبيرة.. حدث ذلك دون أن يتح لنا فيه وقت لندرك حقيقة ما يجري.. دهمتنا الأحداث بغتة، ونحن على خصام مع تاريخنا، حتى القريب منه، وكأننا به أمام طفل بالكاد فطم لكن يجهل تماما مصدر معاناته، ولماذا تعرض لكل هذا العسف!
الكل يردد بأن الانتفاضات التي يشهدها المغرب اليوم تختلف عن الانتفاضات التي شهدها بالأمس. لكن عندما نقف مليا عند ما كتب وما تم التصريح به في هذا الشأن، لا نكاد نلمس فرقا جوهريا يسمح لنا بتفسير ما يجري من حولنا. وتجدر الإشارة إلى أننا، مثلهم، نؤكد أن التوفق في تحديد الفرق بين الانتفاض بالأمس والانتفاض اليوم يعد مدخلا مهما لفهم ما يجري، لكننا مع ذلك لا نسلك مسلكهم في البحث والتقصي، ونختلف معهم في المنطلقات والنتائج.
لقد اعتقد الجميع أن استيعاب الفرق يتوقف على الالتزام بالموضوعية والحياد. واعتبروا أن الموضوعية مرادف للوصف، وأن التمييز في الانتفاض بين الأمس واليوم رهين بجرد خصائص الانتفاض القابلة للملاحظة، قبل أن يتم الفصل فيها بين المتشابه والمختلف. لقد كانت منهجيتهم امبريقية ساذجة تعتقد أن معطيات الواقع الخام تتكلم بذاتها، وأنها لا تحتاج منا سوى أن نصنفها بحسب خصائصها العينية، فيظهر الفرق وينتهي الأمر. على هذا الأساس لم تتعد نتائجهم رصد بعض الفروق في خصائص الاحتجاجات من قبيل المكان الذي اندلعت فيه (بوادي – حواضر – مراكز كبرى...) أو الزمان الذي استغرقته (احتجاجات ذات نفس قصير – احتجاجات ذات نفس طويل) أو النوع (مكانة المرأة في الاحتجاجات) أو السن (مكانة الشباب في الاحتجاجات). لكن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء استثمار هذه التوصيفات في بناء نماذج تحليل تعيننا على فهم ما يجري.
لقد نسوا أو تناسوا.. جهلوا أو تجاهلوا أن المفاهيم في العلوم الانسانية عموما كيانات أو كنهيات نسقية، لا تحمل معناها في ذاتها أو في بعض الخصائص الخارجية التي يمكن جردها، بل فيما تقيمه من علاقات مع مفاهيم أخرى مشكلة أنساقا تفسيرية أو نماذج تحليل.
لنحاول إذن أن نفهم كيف كان يشتغل النسق السياسي بالأمس، ما هي عناصره؟ وما هو المعنى الذي كانت تتخذه الانتفاضات داخل هذا النسق؟ وماذا حدث للنسق السياسي اليوم؟
كل نسق مهما كان، هو حصيلة توازن قوى متنافسة، مصالحها متعارضة، لكن في نفس الوقت يتوقف تحقيق أهدافها على التعاون فيما بينها؛ وإلا في غياب هذا الشرط الثاني، تجد نفسها تمارس الصراع خارج النسق، وفق شروط أخرى مفتوحة، أكيد، لكن غير مضمونة العواقب. لذلك يطلق على هذا النوع من القوى التي تختار أن تمارس الصراع من خارج النسق نعتي "المغامرة" و"الصبيانية"، سيما من قبل القوى التي تتقاسم معها الشعارات العامة، لكن اختارت ممارسة الصراع من داخل النسق؛ نظرا لوجود اختلاف في التقدير السياسي للمرحلة والخط السياسي الذي من المفروض أن يؤطر الممارسة. هكذا نميز بين النسق وبيئته القريبة التي تحتضن ما يطلق عليها ب "القوى المغامرة" والتي سنسميها في هذا المقال بقوى "المحيط" في مقابل قوى "المركز" التي تشمل الأطراف التي تقع داخل النسق وتقبل بشروط اللعبة. لكن، هل القوى التي تعمل خارج النسق السياسي (قوى المحيط) لا علاقة لها بالنسق ولا تكترث لعمله؟
بالعكس تماما؛ إن الاشتغال الجيد للنسق يستلزم وجود قوى خارجه. أو قل للدقة، كل طرف داخل النسق يجب أن يكون له طرف "محيطي" يمثله خارج النسق (صورته بلغة الرياضيات). هكذا تنتظم القوى بين الداخل والخارج بما يفيد الحفاظ على توازن النسق؛ وذلك وفق اشتغال قوتين إحداهما انجذابية (centripète) تعزز تماسك عناصر النسق وتعاضدها،  والأخرى انتباذية centrifuge)) تفكك النسق وتضعف قوى تماسكه.
تزداد شدة القوة الانجذابية عندما تتوافق انتظارات الفاعلين داخل النسق(استراتيجياتهم) مع الفرص التي تسمح بها قواعد اللعب داخل النسق. في هذه الحالة تضعف شدة القوة الانتباذية وتنحسر مشاريع قوى "المحيط". وبالمقابل عندما تتناقض استراتيجيات الفاعلين داخل النسق مع الفرص التي تتيحها قواعد اللعب، يصير الانتماء إلى النسق غير ذي جدوى، فتتعزز القوة الانتباذية ويصاب النسق بعطل وباختلال توازنه. في هذه الحالة تستفيد "قوى المحيط" من انحسار مشروعية قوى المركز، وفتور تأثيرها، فتنجح في اكتساح المواقع التقليدية لهذه الأخيرة.
أمام المنافسة الشديدة التي تواجه "قوى المركز" من طرف "قوى المحيط"، والتي لا ينجم عنها اختلال بين الداخل والخارج فحسب، بل اختلال داخل النسق نفسه؛ حيث تضعف القوة التفاوضية لقوى المركز؛ طالما أن هذه القوة تتوقف على قدرة كل فاعل من داخل النسق على تهذيب صورته المحيطية وقس جناحيها.
عندما يتراجع تأثير قوى المركز، وتشرع قوى المحيط في اكتساح المواقع الاجتماعية والجماهيرية، وتتراجع القدرة التفاوضية لقوى المركز من داخل النسق، تحتاج اللعبة برمتها إلى نفس جديد. تحتاج اللعبة السياسية إلى أداة تعيد لها توازنها، عبر تمكين قوى المركز من حماية مواقعها التقليدية في مواجهة قوى المحيط، وتجديد مشروعيتها الشعبية وفي نفس الوقت تثمين قدرتها التفاوضية داخل النسق.
كان النسق السياسي القديم عبارة عن توازن أو تعاقد طبقي pacte de classes أساسه الإيديولوجي النزعة الوطنية le nationalisme والبراديغم العام الذي يفسر اشتغاله هو المنهجية الوطنية le nationalisme méthodologique. في هذا الإطار، كانت التعارضات بين القوى الحية في البلاد، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، تعبر عن نفسها من خلال مصفوفة اللعبة السياسية ومحيطها القريب، وما تسمح به قواعد اللعب. لم تكن التناقضات تعبر عن ذاتها كما هي. لم تكن مفتوحة على طبيعتها، بل مغلقة بشروط التحويل التي تفرضها اللعبة السياسية. لقد كانت اللعبة السياسية تعيد تعريف التناقضات مهما كانت طبيعتها، فتخضعها لمنطق التوازن الذي يشرط وجودها.
بهذا المعنى يمكن تعريف النسق السياسي المغربي، بالأمس القريب، باعتباره لعبة سياسية تسير بطبيعتها نحو الاحتقان؛ أي احتداد التناقض بين المصالح وتلاشي جدوى التعاون، ثم يتم إعادة التوازن للنسق بعد انتفاضة تدكر الجميع بضرورة التعاون، وبأن المستفيد إذا ما تنكر الجميع لقواعد اللعب يقع خارج الوطن. هكذا تعيد الانتفاضة الأطراف إلى مائدة المفاوضات لتتجدد الأدوار ويستعاد التوازن.
والآن ماذا يجري؟
أول شرخ أحدثته العولمة هو أن العلاقة بين الدولة والوطن لم تعد بديهية. إن العولمة قد أنهت حكاية المنهجية الوطنية. وإذا كان الوعاء العام قد تغير، فبالتأكيد سوف يتغير شكل محتوياته؛ ومنه المعنى الذي تتخذه الانتفاضة اليوم.
الجديد اليوم الذي يستحق الانتباه إليه هو أن التناقضات بين القوى الحية في البلاد لم تعد تمر عبر التحويل السياسي التقليدي؛ أي أنها لم تعد تقبل بإعادة تعريفها من خلال قواعد العقد السياسي، بل أصبحت تعبر عن ذاتها من خلال طبيعتها. ولمزيد من التوضيح، أضرب مثلا "المجتمعات البدائية" التي كانت طبيعة الصراعات بين قسماتها مادية، تدور حول المراعي والمياه، أو قل بصفة عامة حول الموارد الطبيعية. لكن المجتمع برمته كان ينتظم حول نسق القرابة، والسياسة كانت تعني أن نحول مضمون الصراعات من الإيكولوجيا إلى القرابة. لقد كانت الصراعات لا تتخذ معناها إلا داخل نظام القرابة وانطلاقا من قواعد اتصال وانفصال الأسر والعشائر والقبائل.
قس على ذلك النسق السياسي المغربي. لقد أصبحت التناقضات الاقتصادية والثقافية والسياسية منفصلة عن قواعد اللعبة ومستقلة عنها. وأصبحت التعبيرات الاقتصادية (المقاولات) تحضر كطرف مباشر في اللعب، لا تحتاج أن تمر عبر تحويل سياسي. وكذلك التعبيرات الثقافية والدينية والهوياتية. لقد أصبحت التعارضات تحتفظ بطبيعتها. وفي هذا تحول عميق لمفهوم السياسة. إن السياسة لا تقوم لها قائمة بدون أن نتمكن من إعادة تعريف التعارضات وتحويلها؛ إذ بهذا التحويل نعطيها معنى جديدا، ونتمكن من إيجاد حل لها؛ لأنها تكون، بفضل هذا التحويل، قد اتخذت شكلا قابلا للمعالجة. أما وأن الأمور أصبحت تحضر كما هي، فإن الصراع والخصام سيكون مفتوحا. لا يجب أن ننسى بأنه في كثير من "المجتمعات البدائية" لم يكن من الممكن تمثيل المسرحية دون أن يرتدي الممثلون الأقنعة (persona). ولا يجب أن ننسى أهمية الدفوعات الشكلية أثناء المحاكمة؛ فلا مناقشة ولا مرافعة دون أن يتمكن المحامي والقاضي من الاتفاق على التحويل الشكلي للوقائع إلى نصوص. أما إذا استحضرنا أزمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، فلا يمكن أن نستبعد فكرة أساسية في تفسير استدامة الأزمة؛ تتعلق هذه الفكرة بطبيعة التمثيلية والحضور داخل الحركة الطلابية، والتي تقوم على أساس نظام اللوائح. إن هذا النظام يعني أن الأطراف المتنازعة تتنافس وجها لوجه باعتبارها فصائل لها أهداف واستراتيجيات متعارضة.  
اليوم بعدما أصبحت الأطراف المشكلة للنسق السياسي الجديد مستقلة عن أي تحويل سياسي، فإن الانتفاظ لم يعد أداة سياسية لخدمة النسق، وإنما صار فعلا اجتماعيا مستقلا، يعبر عن قوة حقيقية أولية (élémentaire). وإذن، فإن النسق لم يعد ذا طبيعة سياسية بحتة، ولم تعد الأحزاب قادرة على صهر الرهانات الاقتصادية والثقافية في مشروع سياسي مندمج يتدافع، داخل النسق مع مشاريع منافسة. هكذا فإن النسق يتكون اليوم من قوى اقتصادية وسياسية واجتماعية متناقضة نختصرها في ثلاثة أقطاب كبرى: الدولة والسوق والمجتمع. يمكن أن نمثل النسق المغربي بالخطاطة التي وضعها "جان أفشان" مع بعض التعديلات الطفيفة. تضع هذه الخطاطة قوى المركز داخل الدائرة بينما تقدف بانحرافاتها (قوى المحيط) خارج الدائرة.
 

    هذه هي عناصر النسق. في قلب الدائرة مثلث متساوي الأضلاع يتكون من ثلاث قيم أساسية تمنح للنسق روحه الخاصة (son ethos). الدولة أصبحت طرفا في اللعبة ولم تعد تحتكر مفاتيحها؛ لكن هذا لا يعني أنها لم تعد تتحكم في اللعبة، بل بالعكس لقد أصبحت اليوم مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى ممارسة دورها وإقناع السوق والمجتمع بجدواها. مشروعيتها تكمن في حماية قيمة المساواة وخدمة المواطنين باعتبارهم مرتفقين، يتمتعون بالحق في الخدمة الإدارية على قدم المساواة. وكل انحراف عن هذه الغاية وتعظيم لدورها يدفعها إلى السقوط في البيروقراطية، التي يتحول بها المنصب الإداري إلى غاية في ذاته. في هذه الحالة تكون الانتفاضة أداة ردع من طرف المجتمع، الذي يكون قد اكتوى بنيران السلطوية والفساد البيروقراطي. وقد تتحالف قوى السوق مع المجتمع، باحثة عن ميزان قوى جديد يحد من احتكار الدولة للمبادرة الاقتصادية.
مبدأ السوق هو الحرية. لكن عندما تنتشر الهشاشة بفعل تراجع سوق الشغل (غياب الحماية والتأمين) وتلاشي الرابطة الاجتماعية (لم يعد الشغل مصدر لإنتاج هوية اجتماعية) تقودنا قيم السوق إلى التوحش والافتراس. في هذه الحالة تكون الانتفاضة أداة لمواجهة الاستلاب؛ لذلك تتسربل في هذه الحالة بشعارات إنسانية، وبتثمين الأعراف والتقاليد والتراث؛ أي المعقولية التاريخية التي تتمحور حول العدالة الاجتماعية في مواجهة العقلانية الاقتصادية التي تتمحور حول الفعالية. قد تدعم عناصر من الدولة الانتفاضة، خصوصا المثقفين والفنانين وممثلي الطبقة الوسطى عموما.
المجتمع لا يكون بدون تضامن؛ لذلك عندما تتفكك سيرورات التنشئة الاجتماعية، وتكف عن تأدية وظائفها يصاب المجتمع بالشلل. لكن بالمقابل قد يؤدي الإفراط في قيمة التضامن إلى إنتاج ذهنية القطيع والانغلاق الهوياتي الذي يقف في وجه كل إبداع فردي أو رغبة في الاجتهاد. في هذه الحالة تتفكك الانتفاضة وتكف عن حشد الأنصار، فتتحول إلى جماعات متناحرة تقفل على عنف مفتوح. تذكي الدولة في تحالفها مع قوى السوق الخلافات بين الجماعات الاولية لتبرهن على أن المجتمع لا يرقى بذاته إلى تنظيم نفسه بنفسه، وأن شعاراته يوتوبيا جميلة لكن غير واقعية. في هذه الحالة تنجح الدولة في إثارة انتفاضات مضادة من أجل استعادة الأمن بعدما يكون الشعور بعدم الأمان (le sentiment d’insécurité) قد تعاظم بين الناس.



16‏/06‏/2017

المغرب الأقصى بلد الاستثناء: رأي حول موقف المغرب من أزمة الخليج

المغرب الأقصى بلد الاستثناء
رأي حول موقف المغرب من أزمة الخليج

بقلم إدريس الجنداري*


في علاقة بموقف المغرب من الأزمة الخليجية، و ما تلاه من ردود فعل اتخذت لحد الآن طابعا إعلاميا، أجد الفرصة مواتية لتوضيح مجموعة من النقط التي ظلت غامضة في مساري البحثي، و خصوصا ما تعلق منها بالبعد الحضاري العربي الإسلامي للمغرب.

كنت دائما أحمل وعيا شقيا، في علاقة بعروبة المغرب، فمن جهة كنت على تمام الوعي بأن المغربي/الإفريقي لن يكون يوما سعوديا/آسيويا، حتى و لو وظفنا أعتى الأسلحة الإيديولوجية، فللمغرب خصوصيته الوطنية التي ميزته عن المشرق طوال قرون. و من جهة أخرى، لم أكن قادرا على تصور أي وجود للمغرب خارج التصور الحضاري العربي الإسلامي. فقبل انتماء المغرب إلى الحضارة العربية الإسلامية لم يكن شيئا يذكر، كان مزرعة كبرى لروما، و لا وثائق مادية تؤكد أنه كان للمغرب وجود حضاري سابق عن الحضارة العربية الإسلامية.

كيف يمكن الخروج من هذا الوعي الشقي/ المأزق، ذلك كان الإشكال الذي أرقني مرارا.
بعد مسار بحثي طويل و شاق، اهتديت إلى شبه حل، أظن أنه يخفف من الطابع الإشكالي. 

 المغرب، تاربخيا، ظل يجمع بين اتجاهين يبدوان، للوهلة الأولى، متناقضين. من جهة، استمر ارتباط المغرب بالأمة العربية الإسلامية، طوال قرون، و لم يتزحزح يوما عن هذا الانتماء تحت أي داع أو ضغط. و من جهة أخرى، ظل المغرب محافظا على استقلاله عن مركز الخلافة في الشرق، و ظل محافظا على سيادته الوطنية كمغرب أقصى بعاصمته التاريخبة مراكش، و لم يتعد ارتباطه بالخلافة الإسلامية في الشرق حدود الاعتراف الرمزي حفاظا على وحدة الأمة العربية الإسلامية.

ما مدى صلاحية هذه المنهجية راهنا، هذا هو السؤال الأجدى . 
أظن أن المغرب ظل محافظا على هذه المنهجية، سواء خلال تاريخه الحديث أو خلال تاريخه المعاصر. 

 حديثا، ظل المغرب رافضا الانضواء تحت أي تصور خلافي دامج يهدد خصوصيته، و لذلك ظل المغرب الأقصى الدولة الاستثناء التي لم تدخل تحت لواء الإمبراطورية العثمانية، و لما نجح التيار الوهابي في اكتساح الجزيرة العربية، خلال عهد المولى سليمان، ظل المغرب مقاوما للاختراق الوهابي، نخبا سياسية و ثقافية و شعبا، رغم ميل السلطان المغربي إلى الاتجاه الوهابي. 


 معاصرا، ظل المغرب محافظا على خصوصيته في مواجهة التيارات الإيديولوجية التي وظفت مكوني العروبة و الإسلام لتأسيس مشاريعها السياسية. فالمغرب لم يعبر عن أي ميل نحو الاتجاه القومي/البعثي، و ظل يعتبر أن العروبة حضارة و ليست إيديولوجية للاستثمار السياسي. و نفس الأمر حدث مع الاتجاه الإسلامي الإخواني و الشيعي، فالمغرب لم يكن يوما تربة خصبة لهذا التيار الإيديولوجي، لأن الإسلام في تصور المغاربة أكبر من أن يكون مشروعا إيديولوجيا ظرفيا عابرا، إنه مشروع حضاري شامل.

 اليوم، على وقع الصدامات التي يعيش على إيقاعها العالم العربي الإسلامي، ما أحوجنا إلى استحضار و توظيف هذا الرصيد الحضاري العظيم، الذي نجح، لقرون، في حل معادلة معقدة و صعبة الحل: أن نحافظ على انتمائنا للأمة العربية الإسلامية، و هذا حق دافع عنه الأجداد و ليس منحة من أحد. و في نفس الآن، أن نحافظ على استقلاليتنا عن المرجع المشرقي بجميع تياراته الإيديولوجية و مذاهبه الدينية، و مكوناته العرقية




*كاتب وأكاديمي مغربي، حاصل على الدكتوراه تخصص سوسيولوجيا الأدب من جامعة محمد الخامس- الرباط


07‏/06‏/2017

نداء من أجل استعادة روح التضامن و الوئام بخصوص حراك الريف

نداء من أجل استعادة روح التضامن و الوئام بخصوص حراك الريف



بمبادرة شخصية ذات طابع رمزي، وجه الكاتب والأكاديمي المغربي إدريس جنداري نداء لأبناء الشعب المغربي بخصوص حراك الريف وما اعتراه من جدال، عبر الفايسبوك من اجل استعادة روح التضامن والوئام.

وفي الأسطر التالية نقدم نص نداء الدكتور إدريس جنداري كما  تم تناقله عبر صفحات الفايسبوك:

"طوال أسابيع، كان الهم الذي يوجهنا، في علاقة بحراك الريف، هو التنبيه إلى المنزلقات التي يمكن أن ينجر إليها و يؤدي الوطن ثمنها غاليا. 

 هذا، يعني أننا لم نكن في مواجهة المطالب المشروعة للحراك، بل اعتبرناها مطالب واجبة على الدولة، يجب تحقيقها في جميع أقاليم و جهات المملكة، لأن الحالة الاجتماعية للمغاربة وصلت إلى درجة لا تحتمل من التردي، و واهم من يسوق لغير ذلك، و نحن من أبناء الشعب نعايش هذا بشكل يومي و لسنا في حاجة إلى توضيح مجرد يوظف الإحصائيات. 

 بعد أن تحكمت الدولة في إيقاع الحراك، و جنبته السقوط في المنزلقات الخطيرة التي كانت تحيطه من كل الجوانب ( و هذا يحسب للعقل الأمني الذي دبر المرحلة )، الآن لابد من استعادة شعار: (إن الوطن غفور رحيم) شكلا و روحا.

 أبناء الريف مغاربة أحرار ضحوا كإخوانهم بالغالي و النفيس من أجل استقلال الوطن خلال المرحلة الاستعمارية، و ما زالوا يواصلون الكفاح من أجل تنمية الوطن و تحقيق استقراره الاجتماعي، فالكثير منهم يكد و يجد في بلدان الاغتراب و عينه على محيطه الاجتماعي الصغير مجسدا في عائلته، و محيطه الاجتماعي الكبير مجسدا في وطنه. 

ليكن الوطن غفورا رحيما، فالمغرب أرض التعددية و الاختلاف و التسامح و يتسع لكل أبنائه. 

 لقد تحلى المغاربة بجرأة كبيرة و هم يغفرون زلات إخوانهم الصحراويين الذين صرحوا مباشرة بنواياهام الانفصالية، بل و أعلنوا حربهم على المغرب و تواطؤوا مع أعداء الوطن، و رغم ذلك لم يخسر الوطن شيئا، بل ربحنا كل شيء، لقد حافظنا على وحدتنا الوطنية التي ناضل في سبيلها الأجداد، و واصلنا طريق التعايش السلمي باختلاف انتماءاتنا. 

 لنستحضر، مرة أخرى، درس الصحراء، و لنعلنها مدوية في وجه كل صيادي المياه العكرة: نحن أمة مغربية واحدة موحدة من صحرائها إلى ريفها. 

لنطلق سراح المعتقلين 

لنحقق مطالبهم الاجتماعية العادلة 

لنعد الثقة و الوئام بين أبناء الوطن 

ليعتذر الجهاز الأمني عن تجاوزاته و ليطمئن مواطني الريف أنه في خدمتهم . 

لنطلق مسيرة خضراء جديدة من الريف و نحقق مصالحة تاريخية تجب ما قبلها. 


ثقتي كبيرة في أمتي المغرببة، أنها قادرة على تحقيق استمرارية فلسفة ثورة الملك و الشعب."

05‏/06‏/2017

الغش في الامتحان ونظر في السلطان وفي الأسلوب بيان

الغش في الامتحان ونظر في السلطان وفي الأسلوب بيان

بقلم د.جمال فزة*



تعيش الكليات والثانويات المغربية في مطلع شهر يونيو من كل سنة على إيقاع الامتحانات النهائية، التي تفرض على الأستاذ، بقدرة قادر، أن يتحول إلى ما يشبه دركي أو أحد أفراد القوات المساعدة.
تعتبر فترة الامتحانات فرصة لتحليل ميكانيزمات السلطة كما تتبناها الدولة وتمارسها، بالرغم من أن منطق تدبير المؤسسة التعليمية عموما من المفروض أن يكون بعيدا كل البعد عن منطق تدبير بعض المؤسسات القريبة من الدولة، باعتبارها الجهة الوحيدة التي تطالب بالحق في احتكار العنف المشروع؛ فقاعات الدرس والمدرجات والمكتبة وعمارة الكلية على وجه العموم توحي، على خلاف المؤسسة الأمنية مثلا أو المؤسسة العسكرية أو المؤسسة القضائية، بسيادة منطق مغاير للسلطة والتحكم والمراقبة: منطق المعرفة والبحث العلمي والسعي وراء الحقيقة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. 

 
أكيد توجد اختلافات كثيرة بين تدبير مؤسسة أمنية وتدبير مؤسسة تعليمية، ومع ذلك لا ينبغي أن ننسى أطروحة ميشيل فوكو الرئيسة؛ ومفادها أن السلطة لا توجد متمركزة في جهاز الدولة فحسب، بل توجد منتشرة في كل مكان من النسيج الاجتماعي، وتعمل بطريقة مثلى حيثما يفترض الناس أنها تغيب تماما. يبقى أن أشير كذلك إلى أن فترة الامتحانات هي بالنسبة لي محلالاanalyseur  بلغة التحليل المؤسساتي؛ أي فرصة للكشف عن الأوليات الخفية لاشتغال السلطة، والتي يصعب الإمساك بها في الحالات العادية لسير المؤسسة (فترة الدراسة(.
هذه طريقتي في البرهنة، تليها استنتاجات:
 المبدأ الذي يجب أن تخضع له عملية مراقبة الامتحانات، سواء من طرف الأساتذة أو معاونيهم من الموظفين أو الطلبة الباحثين، هو توفير الجو الملائم ماديا ومعنويا كيما يجتاز الطالب الامتحان في أحسن الظروف.
 
نقصد بالشروط المادية توفير القاعات الملائمة والكراسي المريحة ومكبرات الصوت والسهر على توزيع المترشحين على القاعات بما يسمح وتفادي الاكتظاظ.
ونقصد بالشروط المعنوية؛ تجنب استفزاز الطالب، أو إحراجه أو المس بكرامته.
 
لكن، ليس جميع الطلبة يلتزمون بالقواعد والمعايير المطلوب الالتزام بها في فترة الامتحانات؛ فمن بينهم عدد مهم يعول على الغش.
 
إذن، يجب على المراقبين أن يشددوا المراقبة ويكشفوا عن حالات الغش، احتراما ومبادئ تكافؤ الفرص والاستحقاق والامتياز للأفضل. 
يبدو أننا نوجد أمام مشكلة حقيقية أو قل معضلة (un dilemmee): كيف نحارب الغش وفي نفس الوقت نحترم كل الشروط القمينة باجتياز الامتحانات في أحسن الظروف؟
مبدأ كوني:
 إن الأصل في القانون هو البراءة، والأصل في علاقتنا بالوجود هو الإباحة، والأصل في ما يخفى من المشاعر هو حسن النية. فلا يمكن أن ندين شخصا ما، ما لم يتبين بالدليل أنه مذنب، ولا يمكن أن نحرم على الناس شيئا ما، ما لم يتبين بالدليل أنه مضر بالإنسان، ولا يمكن أن نحكم على نوايا الناس، ما بطن منها، إلا إذا تجسدت في سلوك قابل للملاحظة.
قس على ذلك ما يلي:
 لا يمكن للمراقب أن يطلب من المترشح الوقوف طالما بإمكانه أن يكون جالسا على وثائق يستعين بها من أجل الغش. ولا يحق له أن يفتش المترشح لأن هذا الأخير يمكن أن يكون قد وضع وثائق في جيوبه. بكل بساطة لأن المترشح يمكن ألا يكون جالسا على الوثائق المعلومة، ويمكن ألا يكون قد وضع في جيوبه مثل تلك الوثائق. في هذه الحالة يكون المراقب قد مس بالمبدأ الأول للعملية برمتها، وهو في جانبه المعنوي عدم استفزاز الطالب أو إحراجه؛ ما يمكن أن يذمر مشاعره ويحد من إبداعيته.
رب معترض يمكن أن يقول بأنني أبرر الغش وألتمس لمرتكبيه أعذارا.
 
هذا الاعتراض لا يجانب الصواب تماما، بحيث إذا طلب مني أن أختار بين أمرين لا ثالث لهما: التشدد مع الغش وهذا يمس بالحرية والإبداع أم التساهل مع الغش وهذا يوفر للجميع شروط الحرية والإبداع، لاخترت الطرف الثاني من المعضلة.
 وأنتم ماذا تختارون إذا عاينتم جريمة يطعن فيها أحد الأشخاص شخصا آخر بالسكين؟ إسعاف المصاب أم ملاحقة المجرم؟
 لقد اخترت مغامرة الحرية والإبداع ليس لأنني محب للحرية فحسب، بل لأنني أكره السلطوية وأعرف جيدا كيف تبرر وجودها وضرورتها. ماذا لو قلت لكم إن الغش ظاهرة ترتبط بماهية السلطوية؟ فالسلطوية لن يكون لها أي مبرر إذا لم يكن الغش هو السائد في المعاملات بين الناس. إن السلطوية والغش وجهان لعملة واحدة.
انتبهوا!
الغش ليس ظاهرة قيمية وأخلاقية. إنه ظاهرة سياسية وتقع في صلب السلطة.
ملحوظة:
 
عدد مهم من الحالات التي تحال على المجالس التأديبية ليست حالات غش، بل حالات توتر ومشادات كلامية بين المراقبين والمترشحين.
ملحوظة أخرى:
 يمكن لممارس الغش أن يتذلل ويستجدي أو يوقع التزام فيخلى سبيله، لكن غالبا ما يتعرض المترشح الذي احتج على المراقب أو تلاسن معه للعقاب.

استنتاج:

 
تنتعش السلطوية في شروط يسود فيها الغش؛ ففي مثل هذه الشروط تختلط الأوراق، فيصير كل ذي حساسية مفرطة اتجاه السلطة لقمة سائغة للسلطوية. هكذا يوضع الأحرار جنبا إلى جنب مع الغشاشين ليس لأنهم يغشون، بل لأنهم يمسون بهيبة السلطة.
 والآن، ماذا؟ هل تنقدون الخير أم تلاحقون الشرير؟


*كاتب وأستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط.


جميع الحقوق محفوظة لــ مقالات نافعة 2015 ©